السبت، 9 يونيو 2007

(14)

سعيد يلتجئ لأول مرة إلى الحواشي



حاشية: بعد أن دارت الأرض دورة كاملة أي في هذه الأيام، قرأت في صحفكم عن المذكرة التي قدمها وجهاء الخليل إلى الحاكم العسكري أن يبيح لهم استيراد الحمير من الضفة الشرقية، فقد ندرت. فسأل الصحفي: أين ذهبت حميركم? فضحكوا وأخبروه بأن جزاري تل أبيب أنفقوها في صنع النقانق. وحيث إنكم كنتم تؤكدون لنا، يا محترم، أن التاريخ حين يكرر واقعة، لا يعود على نفسه، بل تكون الواقعة الأولي مأساة حتى إذا تكررت كانت مهزلة، فإني أسألكم: أيهما المأساة? وأيهما المهزلة?
هل هي مأساة الحمير في وادي النسناس، التي ظلت أكثر من سنة سائبة: حمير من الطيرة، وحمير من الطنطورة، وحمير من عين غزال، وحمير من أجزم، وحمير من عين حوض وحمير من أم الزينات صينت من العقل، ومن لغط الإناث، فلم تهاجر، فنفقت دون أن يتحقق من لحمها الدسم غير المرحوم كيوورك، أم هي مهزلة النقانق الشهية، صنعة تل أبيب? أعلم، يا محترم، أنكم عنيدون فيما تستنبطونه من نتائج. ولكن، أليس صحيحًا أنه حيث يهاجر القوم، تبقي الحمير، وحيث يبقى القوم لا يجد الجزار ما ينقنقه سوى لحم الحمير? خذوا عني هذه الحكمة: كم من شعب أنقذته بهيمة من سكين جزار!
وفي أيامي الأولى، زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين، ولجت بيوتًا عربية مهجورة كثيرة في حيفا، من أبوابها المكسورة. فوجدت أقداح القهوة مصبوبة لم يجد أهل البيت وقتًا حتى يشربوها. وجمعت أثاث بيتي بعضه من هذا البيت، وبعضه من ذاك البيت، مما بقي من متاع لم تمتد إليه أيدي الذين سبقوني في الزعامة، الذين سبقتهم يد الحارس على الأملاك المتروكة، الذي سبقته أيدي وجهاء حيفا من زملاء وجهاء حيفا العرب، الذين لم يتركوا فيلاتهم إلاّ بعد أن أوصوهم بها خيرًا حتى يعودوا (بعد شهر على الأكثر)، فحفظوها في القاعات الشرقية التي أفردوها في فيلاتهم لتوكيد صداقة قديمة لا تفنى ولا تزول مثل خشب السنديان. فأصبحوا يتباهون بالسجاد العباسي (نسبة إلى شارع عباس في حيفا) كما تباهى أمثالهم في القدس بالسجاد القطموني (نسبة إلى حي القطمون في القدس). وصار الشيوعيون يسمون الحارس على الأملاك المتروكة بالحارس على الأملاك المنهوبة، فأخذنا نلعنهم علانية ونردد أقوالهم في سرائرنا.
فلما وقعت حرب الأيام الستة، التي جاءت بعد عملية قادش (المقدسة) مثلثة الرحمات ، التي جاءت بعد حرب الاستقلال، ورأيت أولاد القدس والخليل ورام الله ونابلس يبيعون صحون الزفاف بليرة، قلت: بليرة ولا بلاش! وأيقنت صحة استنباطكم، يا محترم، بأن التاريخ، حين يعيد نفسه، يعيدها متقدمًا أمامًا، من بلاشي إلى ليرة. إن الأمور، حقًا تتقدم. وانتهت الحاشية .

(13)

كيف أصبح سعيد زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين


الآن، وأنا في بحبوحة من الوقت، أستعيد لقائي الأول برجل الفضاء العجيب، فأعجب من نفسي كيف تركته يمضي دون أن أتعلق بأهدابه وألح عليه أن ينقذني من هذه الحياة المهولة.
أما في حينه، فكنت مشغولاً بإعداد نفسي لملاقاة الأدون سفسارشك، فكنت أحطه فوق القلب مع رقية جدتي.
ولكنني لن أطيل عليك السرد، يا محترم. فقد دخلت مركز البوليس في عكا في الساعة السابعة صباحًا بالضبط، كما أمروني.
فسألت عن سيدي الحاكم العسكري الذي سيحملني إلى حيفا. فجعلوني أنتظر حتى الرابعة مساء دونما طعام أو شراب سوى قدح من الشاي قدمه لي جندي شاب حدثني باللغة الإنجليزية، فرددت عليه بأحسن منها.
قال إنه متطوع جاء ليحارب الإقطاع، وإنه يحب العرب.
وقبل أن يترك المركز عاد وصافحني بحرارة ووعدني بأنه، حين تنتهي الحرب، سيقيمون لنا كيبوتسات يعتمدون فيها على أمثالي من الشبان المتحررين الذين يتقنون لغة إنسانية.
وقال: شالوم! فأجبت بـ (بيس) مؤكدًا إنسانيتي. فضحك وقال: سلام، سلام، بالعربية. فانفرجت غمتي.
ثم أركبني أحدهم إلى قرب السائق في سيارة جيش مغبرة وموحلة. وركب إلى جانبي، صامتًا، حتى أشرفنا على مدينتي حيفا عند السعادة.
فلم أبحث عن شقائق النعمان، لأنني تيقنت من عدم وجود مكان لذكريات الطفولة على هذا المقعد الذي لا يتسع لثلاثتنا.
فقال: أهلاً وسهلاً في مدينة إسرائيل!
فحسبت أنهم غيروا اسم مدينتي الحبيبة، حيفا، فأصبح (مدينة إسرائيل).
فانقبض صدري مثلما انقبض، فيما بعد، حين مررنا بوادي الصليب، فإذا بالدرب خال من الناس ومن لعلعة الرصاص، التي تعودنا عليها في الأشهر الأخيرة قبل أن يسقطا - والدي وحيفا.
فقلت في نفسي: ها قد حل السلام الذي تمنيناه، فلماذا شعوري بالانقباض?
فأجاب حارسي، وكأنما كان يحرس أفكاري أيضًا: السلام، ما أوسع السلام!
فتحركت وأنا أحاول أن أتوسع في مقعدي. فزجرني فانزجرت.
فأوقف السيارة وطلب مني الانتقال إلى ظهرها المفتوح، قائلاً: كل واحد يقعد في مكانه.
ولكنني لم أجد على ظهرها مقعدًا، فوقفت في مكاني.
حتى دخلنا في وادي النسناس، من شارع الجبل ففرن الأرمني. فلم أنتظر أن ألقى طفله الذي علمته القراءة العربية، ذلك لأن باب الفرن كان مسدودًا.
فقال: انزل.
فنزلت.
فسلمني إلى اللجنة العربية المؤقتة.
فتسلموني شاكرين. فلما أقفى شتموه.
وصاح أحدهم: هل يحسبون مقر اللجنة أوتيلا? لا بد أن نحتج على ذلك في مكتب وزير الأقليات.
فأردت توكيد عروبيتي كي أستميلهم نحوي، فتحسرت أمامهم على اسم مدينة حيفا الذي أصبح مدينة إسرائيل. فحملق أحدهم بالآخرين، وقال: وأهبل أيضًا?

فلم أفهم كيف اعتبروني أهبل حتى معركة الانتخابات الأولى حين فهمت أن كلمة (مديناه) بالعبرية تعني (دولة) بالعربية.
فحيفا أبقوا على اسمها لأنه توراتي.
فاقتنعت، بيني وبين نفسي، بأنني حقًا أهبل.
وأكبر دليل على ذلك أنني كنت آخر من تحقق من أعضاء اللجنة أن المرحوم كيوورك كان يقدم لنا، في مطعمه، لحم الحمير. فنطعم ونشكره.
وفي صباح اليوم التالي، نزلت إلى شارع الملوك حيث استقبلني الأدون سفسارشك على عتبة مكتبه، وهو في ثياب الجندية. فنقدني عشر ليرات صحاح وقال: أبوك خدمنا، خذ هذه وكل! فصرت آكل في مطعم كيوورك حتى وجد لي أحد أعضاء اللجنة بيتًا مهجورًا من بيوت عرب حيفا. فجاء الجنود المسرحون وطردوني من هذا البيت. فاشتغلت زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين.