(10)
سعيد يفشي بسرّ عجيب من أسرار العائلة
أَرِقْت، لا لأنني كنت مضطربًا، بل لأنني كنت مبهورًا بطالعي الحسن. فها أنا ذا أعود إلى أرض الوطن متسللاً، فلا ينالني سوء، مع أن شعبي كله يهيم على وجهه مشردًا، فإذا لم يهم، هيَّموه.
إلاّ أنا. أتسلل في سيارة الدكتور عشيق أختي، فيبقى عفاف أختي مصونًا بفضل زوجة مضيفنا في معليا، فأنتقل من السيارة إلى الدابة، ومن الدابة إلى الجيب. وفي الطريق إلى عكا أنجو من الموت الأكيد بفضل انكماشي الذي جاء في وقته. فألتجئ إلى جامع الجزار في كنف معلمي الذي عفوت عنه، فيأتي العسكر ويقذفون بالأشباح، وبأطفال الأشباح، إلى ما وراء الخطوط، سوى سعيد أبي النحس المتشائل، فكيف لا أشعر بأن هذه الليلة هي ليلة سعدي?
لا يمكن أن يكون الأدون سفسارشك هو سبب كل هذا السعد. هل هو خاتم شبيك لبيك? أو هو قنديل علاء الدين? إن في الأمر لسرًا خارجًا عن قدرة البشر.
فقررت أن أخرج لأكشفه. وقبل أن أخرج. عفوًا يا أستاذ. بل قبل أن أروي لك ما جرى لي بعد خروجي، من الضروري أن أعرّفك بخصلة أصيلة أخرى من خصال عائلتنا العريقة، بالإضافة إلى التشاؤل، وإلى أننا مطلاقون.
كان والدي، حين استشهد، يستشفّ الأرض تحته. فلم يكشف الكمين الذي كمن له وأودي بحياته. ووالده، من قبله، شجَّ رأسه بحجر الطاحون لأنه كان ينظر في الأرض بين قدميه، فلم يقم بعدها.
فهذه هي شيمة عائلتنا النَّجيبة، أن نظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط سهوًا من صرَّة عابر سبيل لعلنا نهتدي إلى كنز يبدل حالنا الرتيبة تبديلاً.
وثقْ، يا محترم، بأنه ما من عجوز، في طول بلاد العرب وعرضها، يسبق رأسها بقية جسمها إلى القبر، وتدب مقوسة مثل رقم 8 ، إلاّ ولها صلة قربى بنا. وما من شاب ينصب الفخاخ لالتقاط نشرات الأخبار الإذاعية، لا يبقي محطة ولا يذر، مثل صياد السمك الذي يلقي بصنانيره لعل السمكة الذهبية تعلق بإحداها، إلاّ ويكون ابن عم أو ابن خال.
ولكن، يجب ألاّ تفهم من هذا الكلام أن جدودنا لم ينتهوا إلاّ برؤوس مهشمة. بل لقينا أموالاً ضائعة كثيرة، جيلاً بعد جيل، فلم تبدل شيئًا من حياتنا الرتيبة.
ومن أسرار العائلة أنه في زمن خروج الأتراك ودخول الإنجليز، خرج عمي لجدي من بيته في القرية الفلانية - نحن، مثل الماسون، لا يمكن أن نفشي أسرارنا العائلية - وكان ينظر إلى أسفل كعادتنا. فاصطدم رأسه بحجر في بيت خراب. وكانت جمجمته صلبة. فتدحرج الحجر من مكانه. فانكشفت أمامه هوة تغضنت في سفحها درجات هبط عليها، فإذا بظلام خفاش. فقدح زناد فكره، فقدح زناده، فاستضاء. فرأى لحودًا رخامية أخذ يفتحها فإذا فيها جماجم وبقية عظام، وغاليات ذهبية دسها في دكة سرواله، حتى فتح لحدًا أكبر من الآخرين، فإذا فيه، مع الجمجمة التي كانت، كما قيل، أصغر حجمًا من بقية الجماجم، تمثال من الذهب الخالص للخان مانجو، أكبر إخوة هولاكو، الذي صرعته الدوزنطاريا وهو يغزو الصين. فنقل جثمانه الضخم إلى عاصمة ملكه على حمارين. ولم يكونوا قد بلغوا في ذلك الوقت ما بلغناه من علم، فلم يهتدوا إلى فرق الكشافة. ولم تكن لديهم مدارس يصفون أولادها على الجانبين، كما فعلوا بنا في حيفا في الثلاثينيات، حين صفونا على جانبي شارع الناصرة أمام عامود فيصل حاليًا ، لنشيع جثمان الملك فيصل الأول، الذي مات في سويسرة بغير الدوزنطاريا.
ولذلك قرروا أن يقتلوا كل من تلقاه الجنازة في طريقها، احترامًا لذكرى خان الأول، كما قتلنا في الثلاثينيات ثلاثة أيام دراسة احترامًا للملك الأول. فأزهقوا في طريق هذه الجنازة، بحسب ما سجله المؤرخون، عشرين ألف روح وروحًا واحدة، هي روح عمي لجدي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو متشبث بصنم الخان مانجو بعد سبعة قرون.
تبين عمي لجدي، وهو في القاع، أنه أخيرًا لقي الكنز الذي ظلت العائلة تبحث عنه عبر الأجيال، فدهمته الفرحة، فأضاع فتيله، فلم يجد الباب. فأخذ ينادي على زوجه مقدرًا أن بيته، الذي بجوار الخربة، هو الآن فوقه. وروى لها كل ما أسلفت ذكره. فسمعت صوته قادمًا من الأعماق. إلاّ أنه استحلفها بقبر والديها ألاّ تخبر أحدًا، حتى أخاه. بل أن تنزل إلىه من فتحة الهوة في حائط الخربة المهجورة. فخرجت. فلم تجد أي بيت مهجور في القرية. فعادت إلى البيت وألصقت جبينها بالأرض ونادت عليه. فشتمها على نزقها، وأمرها بالتزام الصمت حتى الصباح. فالصباح رباح. وسيجد طريقه لوحده.
فلما لم يعد، أخبرت أهله بالأمر. فقاموا يفتشون، فلم يجدوا أية خربة.
ولم يشاؤوا أن يبلغوا الحكومة حتى لا تضع يدها على الكنز فيضيع الكنز عليهم. وظلوا يبحثون عنه وعن صنم مانجو حتى قامت الدولة. أما زوجه، فلم تمت إلاّ بعد أن وجدت غيره، ولم يكن عاقرًا.
وأما أنا، فقررت ألاّ أموت مقوس الظهر كأسلافي. ومنذ نعومة أظفاري أقلعت عن البحث بين قدمي عن كنز للخلاص. بل رحت أبحث عنه فيما فوق، في هذا الفضاء الذي لا نهاية له، في هذا (البحر بلا ساحل) كما وصفه محيي الدين بن عربي.
فقد قيض لنا، ونحن في المدرسة الابتدائية، أستاذ مغضوب عليه مولع بعلم الفلك، حكى لنا حكايات العباس بن فرناس وجول فيرن، وتعصب للفلكيين العرب القدماء، من ابن رشد، الذي كان أول من درس بقع الشمس حتى البتَّاني الحرَّاني الذي كان أول من استنتج أن معادلة الزمن تتغير تغيرًا بطيئًا مع مر الأجيال، وأول من توصل بكثير من الدقة إلى تصحيح طول السنة الشمسية. فإذا كانت مدتها الحقيقية، أعلن المغضوب عليه، هي 365 يومًا و5 ساعات و48 دقيقة و46 ثانية، فإن البتاني حددها بـ 365 يومًا و5 ساعات و46 دقيقة و32 ثانية، أي بفارق دقيقتين وأربع ثوان. فقد كان العرب، حين يفكرون - قال المغضوب عليه - أسرع حركة حتى من دوران الأرض حول شمسها، فأصبحوا الآن يتخلون عن ملكة التفكير لغيرهم.
وكان المغضوب عليه يبقينا في الصف بعد الدوام، ويغلق النوافذ، ثم يحكي لنا متباهيًا عن أبي الريحان محمد بن أحمد البيروني، الذي استنبط كروية الأرض وأن جميع الأجسام تنجذب نحوها قبل نيوتن بثمانمئة عام، وخصوصًا عن الحسن بن الهيثم الذي كان، وهنا يخفت صوت المغضوب عليه فيصبح همسًا ثوريًا، أول عالم انتهج الأسلوب العلمي المادي الحديث بضرورة الاعتماد على الواقع الموجود والأخذ بالاستقراء والمقارنة. فقد كان العرب حين يفكرون - قال الأستاذ المغضوب عليه - يعملون ثم يحلمون، لا كما يفعلون الآن، يحلمون ثم يظلون يحلمون.
ومنذ ذلك الحين وأنا أحلم بأن يذكرني التاريخ حين يذكر فلكيينا الأقدمين. وبقيت أحلم على هذا المنوال حتى جندلوا والدي، رحمه الله، وقامت دولة إسرائيل.
وكان أستاذنا المغضوب عليه يؤكد لنا أن العرب هم أول من استعمل الصفر للغاية نفسها التي نستعمله لها الآن، ثم قسم الواحد على صفر فأثبت لنا أن هذا الفضاء لا نهاية له، والكون فيه:
يسبح في بحر بلا ســـــــاحل
في حنــــــدس الغيب وظلمائه *
فلا بد أن تكون فيه عوالم مثل عالمنا، وأرقى منا، فلا بد أن يأتوا إلينا قبل أن نذهب إليهم.
لقد خرج الأتراك وأتى إلينا الإنجليز، فلم يتزحزح أستاذنا المغضوب عليه عن نظريته هذه. فكيف أتزحزح عنها، أنا الشاب وعمري كله أمامي، بعد أن خرج الإنجليز وأتتنا إسرائيل?
منذ ذلك الوقت وأنا أنظر إلى أعلى وأنتظر مجيئهم، فإما أن يبدلوا حياتي الرتيبة المملة تبديلاً، أو أن يأخذوني معهم. وهل هناك من بديل? لذلك خرجت من فناء جامع الجزّار، في ساعة الفجر الكاذب، ورحت أجوب طرقات عكا المظلمة وأنا أتطلَّع إلى فوق.
* لإبن عربي