السبت، 31 مايو 2008

11-بحث عجيب في الخيال الشرقي وفوائده الجمّة

لا لا، يا معلم. ليست حكاية السمكة الذهبية. وليست غيرها من حكايات ألف ليلة وليلة، هي السبب في ضياع ولدي، وحيدي، ولاء. فلو انطلق هذا الخيال الشرقي المكبوت، الذي تنفس بألف ليلة وليلة، لعانق النيرين.
ما قولك بالفلاح المسكين، الذي خاف على عروسه من كلام الناس، فوضعها في صندوق حمله فوق ظهره وقام يحرث أرضه وهي فوق ظهره يومًا يومًا.
فلما التقاه الأمير بدر الزمان، فسأله عن سبب هذا الصندوق محمولاً فوق ظهره، فأخبره، فأراد الأمير أن يرى بعينيه، فأنزله وفتحه، فإذا بعروسه مضطجعة، في الصندوق فوق ظهر زوجها، مع الشاب علاء الدين، أليس في الأمر عبرة يعتبرها مصدقو النهاشات في الأعراض، المحمولات، صونًا، على ظهور رجالهن في صناديق?

ولولا هذا الخيال الشرقي هل استطاع عربك، يا معلم، أن يعيشوا في هذه البلاد يومًا واحدًا? فأنت، في كل سنة في عيد الاستقلال، ترى العرب يرفعون أعلام الدولة ابتهاجًا، أسبوعًا قبل العيد وأسبوعًا بعد العيد. وتتزين الناصرة بأكثر مما تتزين تل أبيب من أعلام خافقات. وفي وادي النسناس، بحيفا، حيث تآخي العرب واليهود الفقراء، يعرف بيت العربي من بيت جاره اليهودي بأعلام الدولة الخفاقة فوق بيت العربي فحسب. أما بيت اليهودي فحسبه أنه يهودي. وكذلك السيارات في عيد الاستقلال، تعرف قومية صاحبها بأعلامها الخفاقة. فلما سألت أحد أبناء قومي عن السر في هذا الأمر، أجاب: خيال يا أخ! هؤلاء أوروبيون خيالهم باهت، فنرفع الأعلام حتى يروا بعيونهم.
قلت: فلماذا لا يرفعون الأعلام هم أيضًا?
قال: خيال، أيضًا، يا أخ! هم يعرفون أن خيالنا شرقي، نفاذ، نرى به ما لا يرى. فنرى الأعلام وهي مطوية في الصدور. ألم يحاول المرحوم أشكول أن يحول الحكم العسكري إلى شيء يرى ولا يرى، فرأيناه، على الرغم من ذلك، في أوامر الإقامة الجبرية وفي أخاديد الجروح في خدودنا? خيال، يا محترم.
والشاب العربي، الذي صدم بسيارته سيارة أخرى في شارع ليلينبلوم في تل أبيب، ما كان ينقذه سوى خياله الشرقي? نزل من سيارته وهو يصرخ: عربي، عربي! فتلهى الناس بضرب الضحية حتى ولّى أخونا الأدبار.
والندل شلومو، في أفخم فنادق تل أبيب، أليس هو سليمان ابن منيرة، ابن حارتنا? ودودي، أليس هو محمود? وموشى، أليس هو موسى بن عبد المسيح? فكيف لا يرتزق هؤلاء، في فندقِ أو في مطعم أو في محطة بنزين، لولا الخيال الشرقي وحكاية السمكة الذهبية، وجبل المغناطيس، في وسط البحر الهائج، فلا تستطيع أن تشق عبابه بقاربك إلاّ إذا امتنعت عن ذكر الله، سبحانه وتعالي، على لسانك مهما يمج الموج وتعصف العاصفة?
وهل غير ألف ليلة وليلة نفع تلك القرية الصغيرة الخربة الوادعة، بالقرب من باقة الغربية في المثلث الصغير، حين جاءوا إليها في الانتخابات الثالثة وأمروها أن تمنع الشيوعيين، بالقوة، من عقد اجتماعاتهم في القرية وإلا فسوف يشردونهم، بالقوة، عبر الحدود?
فلما أرسلني يعقوب إلى القرية، قبيل موعد الاجتماع بساعة، لأستطلع الأمر ولأضمن تنفيذ الضرب، دخلت القرية فما التقيت إنسانًا. فتنقلت بين بيوتها. فإذا أبوابها مفتوحة. فدخلت البيوت من أبوابها المفتوحة. فما وجدت حيًا سوى دجاجات سائبة. وأما الكلاب فأقعت في القيلولة.
فرحت أمشي مذهولاً، أتصورني الأمير موسى وقد دخل مدينة النحاس المسحورة، فإذا (لا حس فيها ولا أنيس. يصفر البوم في جهاتها. ويحوم الطير في عرصاتها. وينعق الغراب في نواحيها وشوارعها ويبكي على من كان فيها)
حتى سمعت سعالاً في بيت من الطين. فولجته فإذا شيخ ضرير مقعد. فلما سمع وقع أقدامي قال: هل جئتم، يا شوعة?
قلت كاذبًا: جئنا. فأين أهل البلد?
قال: خرجوا جميعًا إلى تلة قريبة ليكفوا شر الحاكم وشركم عن هذه القرية. فاخرجوا، يا بني، فيعود أهلها إليها.

ولما استوضحته الأمر أبلغني أنهم اجتمعوا شورى بينهم فقالوا: لا نعرف هؤلاء الشوعة ولا يعرفوننا.. وليس بيننا وبينهم دم ولا ثأر. فإذا أراد الحاكم قتلهم فهو أولى بذلك منا وأقدر عليه. وإذا لم نقتلهم قتلنا الحاكم. فقرروا أن يهجروا القرية حتى ينقضي النهار.
قال: أما أنا فبقيت لأن العمى قتلني. فلا أَقتُل ولا أُقْتَل. فاذهب، يا بني، حتى ينقضي اليوم على خير.
فمضيت إلى يعقوب بهذه البشارة. فصاح في وجهي: يا حمار. لقد فعلوها وأنت تحسبها بشارة? كل ما أردناه أن يفصل الدم بينهم، لا التلة!!
ولم أكن أحسبها بشارة بل أردت له أن يتوهم أنني أحسبها بشارة. أما ما كنت أفكر به فهو ما كان الأمير موسى يفكر به وهو يقرأ ما كان منقوشًا على لوح الرخام الأبيض الأول في مدينة النحاس الميتة:
(أين ملك البلاد، وأذل العباد، وقاد الجيوش?.. نزل بهم، والله، هازم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب المنازل العامرات. فنقلهم من سعة القصور إلى ضيق القبور)، ثم وهو يقرأ ما كان منقوشًا على اللوح الثاني:
(أين الملوك الذين عمروا العراق، وملكوا الآفاق. أين من عمروا أصفهان وبلاد خراسان? دعاهم داعي المنايا، فأجابوه. وناداهم منادي الفناء، فلبوه. وما نفعهم ما بنوا وشيدوا. ولا رد عنهم ما جمعوا وعددوا)
ولكنني لم أكن أبكي كما بكى الأمير موسى.
وهذا كان حالي حين كنت أقضي حاجة في المحكمة العسكرية بالناصرة. فإذا بطفل في العاشرة من عمره يخرج إلى الباحة مذعورًا يسأل الرجال عن أمر. فأشاروا صوبي. وكانوا يعرفون صنعتي وبطاقتي. فأقبل عليّ الولد وهو يقول: الحاكم يطلبك. فهرولت إلى القاعة مرفوع الرأس أن الحاكم يطلبني، فإذا المحكمة معقودة. وإذا الطفل يقول: هذا، يا سيدي، من أقربائي. فبهت، فنطق بالحكم عليّ بالسجن ثلاثة أشهر أو بفدية خمسين ليرة. كيف? قيل: لأن الطفل، الذي ادّعى قرابتي، سافر إلى حيفا بدون إذن عسكري بالسفر إلى حيفا. وحيث إن أصول الديمقراطية تحول دون حبس الطفل فقد قرروا حبسي
فلما صحت أنكر قرابته ألقى الحاكم على الحضور محاضرة في رغبة الدولة في أن يتحلى رعاياها العرب، هم أيضًا، بالشجاعة الأدبية، وفي الدولة تحترم الذين لا يتنكرون لذوي القربى.
فلما أشهرت بطاقة اتحاد عمال فلسطين زجرني وقال: سأحيل أمرك على رؤسائك كي يعلموك الشجاعة.
فنقدتهم خمسين ليرة وخرجت شجاعًا.
فبحثت عن الولد، قريبي، فإذا هو بين الرجال واحدًا منهم وقد ضحك ضاحكهم وقال: خيال، يا محترم، خيال!
أما خيال ولاء، ابني ووحيدي، فقد وجد متنفسًا آخر.

ليست هناك تعليقات: