الخميس، 14 أغسطس 2008

12-حادث أصعب على التصديق من الموت على الأحياء

ذلك أننا انشغلنا عن وحيدنا ولاء بصون السر وبالبحث عن الكنز في أعماق البحر، في خفاء أعمق منه غورًا.
حتى أصبح شابًا يافعًا غريب الأطوار. لا يتكلم إلاّ مضطرًا. فإذا تكلم انتشر كلامه انتشار غيوم الصيف التي تتخيلها كما يعن على بالك: رؤوس حيوانات، أو فوارس على أفراس وهي تشن الغارة، أو ملاك مسجى تحت قدمين.
فأقبل ذلك اليوم المشؤوم، من الخريف الأخير قبل الخريف الحزيراني المقيم . فإذا بضوضاء وجلبة تدهمني من كل جانب. وإذا بعسكر كثير يدخلون علىّ في مكتبي. وقد أشرعوا سلاحهم الناري. وعلى رأسهم الرجل الكبير وقد خلع نظارتيه السوداوين ولبس وجهًا أشد سوادا من القطران. وهو ينفض أطرافه وجوانحه. ووقف وراءه معلمي يعقوب، وقد طأطأ رأسه. ووراءهما وحواليهما العسكر. فأقعدتني المفاجأة عن القيام وأنا أحسب أن القيامة قامت.
وزاغت أبصاري، فرأيت صفوفًا متراصة من الرؤوس تتراقص في جدران الغرفة وعلى أرضها. وكنت أرى هذه الرؤوس تتسرب من بين أصابع يدي، المشلولتين فوق المكتب. وكانت هذه الرؤوس تفغر أفواهها وتصرخ في وقت واحد بكلام لم ألتقط منه سوى شتائم عربية، أضحكتني صياغتها غير المألوفة، فضحكت، فأضحكني ضحكي، فأغربت بالضحك حتى تقطعت خواصري. ولم أثب إلى رشدي إلاّ بعد أن وثبوا عليّ فطرحوني أرضًا فاقد الرشد.
وظللت فيما يشبه الغيبوبة وهم يحاولون أن يهزوا دماغي المهزوز برواية أصعب على التصديق من الموت على الأحياء:
ولاء، ابني وحيدي، هذا الشاب الحيي الضئيل، الذي يأكل القط عشاءه، أصبح فدائيًا وأعلن العصيان المسلح على الدولة!
وأنا المسؤول. وتلك الحية الرقطاء، الطنطورية، التي كان يجب أن ترحل مع أهلها، مسؤولة. ومعلمي يعقوب مسؤول. هذا الحمار الذي أعماه شرهه الشرقي، إلى طعامي الشرقي، عن واجب اليقظة. ولا ريب أننا تآمرنا، (كلكم، كلكم)، على الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، حتى نخرب بيته. (ولكنني سأخرب بيتكم)!
أما الدولة فتعرف كيف تحفظ أمنها، وتضرب حتى لات ساعة مندم.
فقد استطعت أن أجمع، بين الشتيمة والشتيمة والغيبوبة والغيبوبة، شتات رواية أشبه بحكايات المردة والجن والعفاريت، عن حياة أخرى من حيوات وحيدي ولاء.
أنه أنشأ، مع اثنين من زملاء الدراسة، خلية سرية. فانتشلوا من كهف، في غور صخري في بحر الطنطورة المهجور، صندوقًا محكم الصناعة والإقفال، لا يدخله ماء ولا تناله رطوبة، فيه سلاح وفيه ذهب كثير.
- باقية، يا باقية، أهذا ما اتفقنا عليه?
تروا سلاحًا وذخيرة ومتفجرات. وأقاموا مخزنًا وموئلاً سريًا في قبو مهدوم ومهجور في خرائب الطنطورة. فأرسلوا أحدهم إلى لبنان حتى يقيم الصلة بالفدائيين.
قال الرجل الكبير: فوصلناه بأيدينا. أمسكنا به وبالآخر.
أما ولاء فالتجأ إلى الموئل في القبو، وقد أجمع أمره على أن يموت شهيدًا.
- فجئناك يا سعيد، يا ابن النحس، يا ابن المتشائل، كي تقوم وتمضي إليه فتقنعه بأن يرجع عما هو مقدم عليه من انتحار صبياني، شفقة بك وبأمه. ولم نأتك إلاّ لأنك رجلنا. فنريد أن نخدمك كما خدمتنا.
قم إلى بيتك فاصحب أمه، الطنطورية، وامضيا إلى خرائب الطنطورة قبل أن تصبح حياتكم كلها خربة واحدة. فإذا سلم منحناه الحياة، من أجل خاطرك. فإذا أبى إلاّ أن يفضحنا متم.
فلما لم أستطع القيام على رجلي، حملوني حملاً، فتحاملت باقية على نفسها وعلى دموعها. ولم أشأ أن أعاتبها صونًا للسر، حتى ألقوا بنا على شاطئ الطنطورة. ووقف العسكر بعيدًا. وكانت الشمس ترنو إلى المغيب في أمسية جف ريقها وحنا شفقها علينا شفقة.

ليست هناك تعليقات: