الأربعاء، 13 فبراير 2008
17-هل كان سعيد هو رأس الخيش?
16-كيف لم يعُدْ سعيد أبو النحس تيْسًا
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد. فقد رحت أتعجب من جهل العامل اليهودي باللغة العبرية حتى أقنعت نفسي بأن هذه الدولة ليست بنت معيشة. فلماذا لا أحفظ خط الرجعة?
فقلت: ما لي غير المحامي عصام الباذنجاني، صديق ابن العم الوزير الأردني، وأخيه الروح بالروح. وكان قد حول بيته الكبير في شارع عباس إلى صومعة ينفث منها اللهب على دولة الأدون سفسارشك كلما زاره صحفي أجنبي. حتى الشيوعيين، الذين اعتبرهم وزير الأقليات أخطر طابور خامس في عقر الدولة، اعتبرهم صديق ابن العم الوزير الأردني مارقين على العروبة وعلى دينها.
وكان لا يعترف يهما - بالدولة وبصحفها - فيرفض أن يقابل من رجال الصحافة سوى الأجانب. فلا تظهر تصريحاته إلاّ في التايمزين - تايمز لندن، وتايمز نيويورك، وفي أمهات الصحف في بلاد العرب، من النيل إلى بردي. ونحن، زعماء العمال في اتحاد عمال فلسطين، أخرجنا صفير التعجب، من شفاهنا المزمومة، على وقاحته القومية حين سمعنا أنه رفض تعليم ابنه في الجامعة العبرية في القدس، بل بعثه إلى كمبردج - إلى كمبردج! وعدنا نزم شفاهنا في صفير الدهشة.
فلما أرخي الليل سدوله، تسترت بها وطرقت بابه. فتوقفت قرقعة أحجار النرد. وفتح لي وهو يخشخش بالزهر. فمسيت عليه، فأدهشته الزيارة. فلما رأيت أحد زملائي، من زعماء اتحاد عمال فلسطين، عنده، وكان يلاعبه، وقد هم بالخروج حين دخلت، لم أخف دهشتي. فحياني وقال: جاري! فتنحنحت على سبيل الموافقة. وبقيت أتنحنح حتى خرج.
ولما انتهيت من تعداد ما لابن العم الوزير الأردني من مناقب، ولما انتهى الباذنجاني من التحسر على مصيري الأسود، ومن الوعد بالعفو عند المقدرة، سردت على مسامعه ما وقع في مغامرتي، وما وقع في رأسي من نتائج. فباركني، وقال: يفرجها!
ولكنه لم يفرجها.
فما أن وطئت قدماي عتبة النادي، في صباح اليوم التالي، حتى استدعاني يعقوب إلى غرفته. فإذا وراء مكتبه رجل ربعة، وضع فوق عينيه نظارة سوداء وأسدل الستائر. فقلت: هذا ضرير.
وأقبلت عليه، وأخذت يده في يدي مسلمًا قبل أن يمدها إليّ حتى لا أحرجه في عماه. فزجرني يعقوب، وصاح: تأدب! فوقفت متأدبًا.
فقال يعقوب: هذا رجل كبير، وجاء ليحادثك على انفراد، فلا تخف عنه شيئًا.
وتركنا لوحدنا.
فما أن أطبق علينا الباب حتى انتفض الرجل الكبير واقفًا، فلم يزدد طوله سوى شبر.
وصاح: إننا نعرف أين كنت أول أمس!
فقلت في نفسي: إذا لم يكن هذا ضريرًا فإنه أطرش. فاقتربت من أذنه وصحت: أردت أن أستنشق هواء البحر، ممنوع?
فلطمني، فلم يخطئ الهدف.
فقلت في نفسي: لا أطرش، ولا ضرير، بل هو رجل كبير حقًا. فتصاغرت له، وقلت: اسأل عني الأدون سفسارشك.
فصاح: أم أسعد!
فقلت في نفسي: حتى أنت، يا أم أسعد?
فصاح: (أخت). ولفظها ألمانية فصحى.
فقلت في نفسي: ما بقي إلاّ أن يسألني عن ليلتي السوداء في بيت الباذنجاني.
فصاح: النرد!
فارتميت على الكرسي، ووضعت رأسي بين راحتي وأنا أهتز يمينًا وشمالاً مثلما عودتنا الوالدة.
ثم وجدتني أقول فيما يشبه العويل: والله العظيم لا أعرف عن ابن عمي الوزير الأردني غير اسمه.
- هل هو ابن عمك لزما?
- والله العظيم لا.
- لماذا?
فتحيرت كيف أرد على سؤاله هذا. ولكنه كان قد هدأ، وقام إليّ، وربت على كتفي أبويًا. وقال: ليكن هذا درسًا لك. ولتعلم أنه لدينا وسائل حديثة نضبط بها حركاتك وسكناتك حتى ما تهمس به في أضغاث أحلامك. وبأجهزتنا الحديثة نعرف كل ما يدور في هذه الدولة وخارجها. فلا تعد إليها مرة ثانية.
ولكنني ظللت أهتز يمينًا وشمالاً لا يخرج من فمي غير: أنا تيس، أنا تيس!
حتى خرج بعد أن أنزل نظارته السوداء عن عينيه. فرحت أترحم بصوت عال على والدي، الذي كان أول من أدرك هذه الحقيقة عني.
فالله يستر عرضك يا أم أسعد، ويستر عرضك يا (أخت). ووالله العظيم أستطيع أن أذهب أنى شئت، وأستطيع أن أفكر بما شئت. ولكنني كنت تيسًا حين طرقت باب الباذنجاني. وكان والدي، رحمهُ الله، محقًا. كان دائمًا يغلبني في وقعة النرد، حتى إذا قلت له: أنت غلاب بها يا أبي، قال: لا يا بني، بل إن كل أصحابي يغلبونني. ولكنك تيس!
ولما قررت أن لا أبقى تيسًا، لم أخبر الرجل الكبير برأيي في جهازه الحديث.
15-الدرس الأول في اللغة العبرية
فحين أيقنت أني مهم، تشجعت وذهبت عصرا، بالباص، إلى وادي الجمال، على شاطئ البحر تحت منارة اللاتين، حيث كان والدي، رحمه الله، قد شيد لنا بيتا بعرق جبين أخي الذي مزقه الونش إربا. ولم اخبر أحدا بنيتي على هذه المغامرة.
فلما عبرت السكة الحديد، وترحمت على شاعرنا مطلق عبد الخالق الذي دهمه القطار وهو يعبر الخط من هذا المكان، تذكرت كلمة نوح إبراهيم.
(( الدين لله أما الوطن فللجميع)) فأسرعت إلى خالتي أم اسعد التي تكنس كنيسة الكاثوليك منذ طفولتنا.
فوجدتها تكنس الحوش في المكان الذي تركناها فيه فقلت لنفسي: الحمد لله على أن شيئا لم يتغير، ولا مكنسة أم اسعد المصنوعة من عيدان العليق.
وانحنيت على يدها اقبلها. فصاحت أنا محصية يا خواجا! ولفظتها (( مخصية))* كما يلفظها العسكر... وأسرعت إلى غرفتها وأنا وراءها، لا افهم شيئا.
وقامت إلى أيقونة ستنا مريم، المعلقة فوق فراشها المرتب، فأزاحتها. فإذا بكوة في الجدار أخرجت منها صرة من قماش ابيض، فكتها مديرة ظهرها حرصا على ما في الصرة.
وكانت تردد: يا عدرا، هذه مصاري الجهاز!
ثم مدت يدها نحوي بقسيمة الإحصاء، المطوية بعناية. وصاحت بصوتها الضعيف: أنا مخصية، وفي رعاية سيدنا المطران. فماذا تريد مني يا خواجة؟
فصحت بها: أنا سعيد يا خالتي، فكيف تنسين؟
قالت: من سعيد؟ قلت: الطيراوي - ففي وادي الجمال كانوا يظنون كل قروي انه من الطيرة.
فدارت على نفسها عدة دورات. فأخذتها بين يدي. وجلسنا على الديوان وهي تسألني عن والدتي وعن أختي، وعن لبن الطيرة الذي لا يصلح غيره لشيخ المحشي.
قلت: وبيتنا؟
قالت سكنوه!
قلت: فهل تعرفينهم ؟
قالت: أنت ترى يا ولدي كيف خبا سراجي، وكل الخواجات خواجات. ولم يعد أحدا يصطاد سمكاً.
قلت: فهل يستقبلونني إذا زرت بيتنا؟
قالت: علمي علمك يا ولدي. ورسمت على صدرها إشارة الصليب فودعتها وقد أثارت هذه الإشارة هواجسي.
فلما مررت من أمام بيتنا ورأيت هناك غسيلا منشورا، خانتني شجاعتي فتظاهرت بأنني جئت أتنزه على شاطئ البحر. وأخذت اذهب وأعود من أمام بيتنا و في كل مرة أهم بان اطرق الباب فتخونني شجاعتي.
حتى أمسى المساء فخرجت امرأة تلم الغسيل فنظرت نحوي ثم هتفت بأمر فأسرعت مبتعداً ولكنني رأيت رجلا في مثل سنها يخرج ويجمع معها الغسيل قلت في نفسي: هذه خدعة فكيف يجمع رجل غسيل بيته؟ هذه فعلة لم يفعلها أبدا والدي رحمه الله، مع أنني لا اذكر والدتي إلا عاجزة وكثيرة الهم. فازددت سرعة حتى أصبحت في الشارع الرئيسي أمام فيلات موظفي حيفا العرب، الذين بنوها ورحلوا إلى لبنان، ليبنوا غيرها ويرحلوا وكان الظلام أطبق وكنت تعبا وخائفا من مغبة هذه المغامرة والطريق طويل.
وكان يمر بين الفينة والفينة عامل يهودي. عرفت ذلك من ثياب العمل التي كانت عليهم وكان جميعهم متوسطي العمر فالشباب والشابات في الجيش.ولم أكن احمل ساعة فاحتجت إلى معرفة الوقت لعل الباص أن يمر أو انه قد توقف في هذه الناحية النائية فبأية لغة أسال هؤلاء الناس عن الوقت؟ فإذا سألتهم بالعربية كشفوا أمري فبالانجليزية أثرت شكوكهم فرحت استعيد ما اذكره من كلمات عبرية حتى تبادر إلى ذهني أن السؤال عن الوقت بالعبرية هو ما شاعاه الذي وجهته يوما إلى فتاه قرب سينما ارمون فشتمت عورة أمي بالعربية الفصحى.
فلما اقبل احد هؤلاء العمال نحوي أطلقتها ما شاعاه؟ فتريث ثم هش في وجهي ثم كشف عن رسغه ثم صاح أخت. فلم أكن كسولا وتذكرت أن أخت هي ثمانية بالألمانية فترحمت على جارنا خريج شنلر وعدت مطمئنا إلى وادي النسناس مشيا على الأقدام وأنا مزمع على تعلم اللغة العبرية.
وفيما بعد تذكرت ما كنا تعلمناه في المدرسة عن فك رموز الهيروغليفية فأخذت اقرأ أسماء الدكاكين بالانجليزية فأقارن الحرف الانجليزي بقرينه العبري على لوحة الدكان حتى فككت الحرف فتابعته في الجريدة العبرية وتكلمتها بأسرع مما قرأتها وأخذني الأمر عشر سنين حتى ألقيت أول خطاب تحية باللغة العبرية وكان أمام رئيس البلدية حيفا فسجلها في صحيفته سابقة.
أما العجيب في الأمر الآن فهو أن صباني نابلس بعد ربع قرن من هذا الكلام أتقنوا اللغة العبرية في اقل من سنتين ولما تحول احدهم إلى صناعة الرخام علق على مدخل جبل النار لافتة بالخط الكوفي المقروء جيدا عن مصنع الشايش الحديث لصاحبه مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسي والشايش هو الرخام بالعبرية فليست الحاجة أم الاختراع فقط بل أيضا مصلحة كبار القوم التي أرخصت أمهاتهم فقالوا الذي يتزوج أمي هو عمي ومن مصالحهم أيضا أن يحولوا بين العامة والاتفاق على لغة مشتركة حتى ولو كانت الاسبرنتو لكي لا يحولوا بينهم وبين ملكهم.