السبت، 16 أغسطس 2008

1-سعيد يجد نفسه فوق خازوق بلا رأس

كتب إليّ سعيد أبو النحس المتشائل، قال: جاءت النهاية حين استيقظت في ليلة بلا نهاية. فلم أجدني في فراشي. فزارتني البردية. فمددت لها يدي أبحث عن سترة فإذا بها تقبض ريح.
رأيتني جالسًا على أرض صفاح. باردة مستديرة. لا يزيد قطرها على ذراع. وكانت الريح صرصرًا والأرض قرقرًا. وقد تدلت ساقاي فوق هوة بلا قرار كما تدلّى الليف في الخريف. فرغبت في أن أريح ظهري. فإذا بالهوة من ورائي كما هي الهوة من أمامي وتحيط بي الهوة من كل جانب. فإذا تحركت هويت. فأيقنت أني جالس على رأس خازوق بلا رأس.
فصرخت: النجدة! فجاءني بها رجع الصدى واضحة حرفًا حرفًا، فعلمت أنني جالس على علو شاهق. فرحت أسلي وحشتي بمجاذبة الصدى أطراف الحديث. فكان الحديث طريفًا حتى افترت الهوة عن ابتسامة فجر أغبر كأنها العبوس.
فماذا أنا فاعل?
فناديت عليّ قائلاً: هدئ من روعك، يا ابن النحس، واجعل أمرك شورى مع عقلك. فما الذي وضعك هذا الموضع، وهل من المعقول أن تنام في فراشك مساء فتستيقظ فإذا أنت على خازوق? تأبى هذا الأمر نواميس الطبيعة وأحكام المنطق. فأنا، إذن، في حلم لا غير على الرغم من أنه حلم طويل.
فما بالي أظل قاعدًا على هذا الخازوق، تحزمني البردية ثم تنشرني لا ستر ولا ظهر ولا أنيس، ولا أنزل?
هذا خازوق في كابوس لا محالة. كابوس عن خازوق. فإذا نزلت عن الأخير نفضت الآخر عن صدري فأعود إلى فراشي وأتغطى وأتدفأ. فكيف أتردد? أخوفًا من أن أهوي من هذا العلو الشاهق إلى قاع الهوة، كبطة أردتها رصاصة صياد بط، فأتوجع فأموت?
ولكن موضعي هذا هو موضع الوهم على خازوق الوهم. فهو فيما يراه النائم من أحلام تخالف نواميس الطبيعة وأحكام المنطق. فهيا، هيا احتضن هذا الخازوق بساعديك وبساقيك وبكل ما فيك من عزم وحزم وإرادة شديدة عند الشدة، ثم اهبط عليه وئيدًا كالسنجاب.
فأزمعت أمري. فحركت ليفتيّ المتدليتين أتحسس صفحته فإذا بها ملساء كجلد الثعبان باردة مثل بروده. فأيقنت أنني لن أقوى على التشبث بهذا الثعبان. وإذا نزلت عليه فأنا واقع لا محالة في القاع، فأدق عنقي فأتوجع فأموت. فأمسكت.
واتتني حكاية الساحر الهندي الذي ينصب الحبل فيظل يرتفع في السماء حتى يغيب رأسه في الغيم فيصعد عليه حتى يغيب ثم يعود ويهبط عليه فلا يتأذي بل يسترزق. ولكنني قلت: ما أنا بساحر هندي بل مجرد عربي بقي، سحرًا، في إسرائيل.
فأردت أن أصرخ: أنا في كابوس! ثم أن أقفز، فلا يمكن أن أموت!
ولقد صرخت. إلا أنني لم أقفز. فإذا كان موضعي هذا هو موضع الوهم فوق خازوق الوهم، وفيما يراه النائم في منامه من حلم أو من كابوس، فلن يدوم الأمر طويلاً قفزت أم قعدت. وسوف أستيقظ، لا محالة، فأجدني في فراشي متغطيًا متدفئًا. فما حاجتي، إذن، إلى مسابقة الساعات، وربما الدقائق والثواني، حتى لحظة اليقظة الآتية لا محالة?

ما حاجتي إلى القفز إذا كان القعود سيقودني إلى النتيجة نفسها?
وهزتني قشعريرة من البردية كادت أن تلقيني من فوق الخازوق لولا قشعريرة خاطر لم أستطع أن أكفه عني:
فكيف إذا كان هذا هو حقيقة وليس فيما يراه النائم من حلم أو من كابوس? أما القول بأنه مخالف نواميس الطبيعة وأحكام المنطق فلا يكفيني برهانًا على أنه غير حقيقي. ألم تبحث عائلتي، عائلة المتشائل عن السعادة طي القرون في عجائب خارجة عن نواميس الطبيعة وعن أحكام المنطق? وإذا ظل أجدادي يدكون أعناقهم وهم يبحثون تحت أرجلهم عن الكنوز المطمورة، فها أنا قد وجدت ضالتي، وأنا أنظر فوق رأسي، في إخوتي الفضائيين الذين أعادوا إلى نفسي الطمأنينة فكيف ينتظر مني، من دون آبائي وأجدادي، وأنا فوق هذا الخازوق بالضبط، أن أسلم أمري إلى نواميس الطبيعة وأحكام المنطق?
ولقد بقيت على هذه الحال أترنح بين قشعريرة وقشعريرة، بردية تقيمني ومحتد عريق يقعدني، حتى التقيت (يعاد) مرة ثانية فشعرت بالدفء لأول مرة منذ ألف عام!

الكتاب الثالث

يعاد الثانية
" انني تشهيت زغاريد النساء
يحملن شوق ألف عام للأغاني والفرح"
سميح صباغ-البقيعة
صدرت في أواسط 1974

الخميس، 14 أغسطس 2008

13-آخر الحكايات حكاية السمك الذي يفهم كل اللغات

ظل ما حدث في تلك الأمسية الخريفية، على شاطئ الطنطورة المهجور، سرًا مصونًا من أسرار الدولة حتى يومنا هذا. ولكنني لا أعتقد أنهم سيحولون بينك وبين إذاعته بعدما جري منذ حزيران.
ولا أعلم ما دونوه في دفاترهم المحفوظة عما جرى في تلك الأمسية: أما ما حفظته في صدري ولا أنساه جملة وتفصيلاً، فهو ما يلي:
وقفنا أمام القبو الخرب، الذي قالوا أن (ولاءً ) مختبئ فيه بأسلحته ومتفجراته، فتكلمت (باقية):
- دعني له، فأنا أمه. ولم أحمله جنينًا فقط بل حملته سري، وحملته أملي.
فانتحيت جانبًا وجلست على سور متداعٍ أنظر إلى البحر الساكن فلا أرى، وأنظر إلى الشمس الغاربة فأشعر بالغربة.
واقتربت أمه من القبو المهجور، خطوة، ثم اقتربت منه خطوة أخرى، ثم نادت عليه:
- ولاء، يا ولاء. بني لا تطلق الرصاص فأنا أمك! فأطبق صمت.
- لا جدوى من المقاومة، فقد كشفوا أمرك.
فأتانا صوته، وقد جعله العمق أجش، وهو يتكلم، كعادته، مضطرًا:
- كيف?
- هم أرشدوني إلى مخبئك.
لست بمختبئ، يا أماه. إنما حملت السلاح لأنني مللت اختباءكم. فأطبق صمت.
حتى عاد صوته يأتينا من الأعماق. فعجبت لهذا الصوت العميق كيف يحتويه صدره الضامر:
- يا امرأة، يا التي هناك، من أنت?
- أمك أنا يا ولاء، فهل ينكر الولد أمه?
- أمي، وتجيء معهم!
- بل أرسلوني، مع والدك، وحدنا يا ولاء... ها هو جالس على بقية سور ينتظر إنقاذ بقيته.
- فلم لا يتكلم?
- إنه لا يحسن الكلام.
فتنحنحت.
- ما الذي جاء بك، يا أماه?
- أرسلوني كي أقنعك بأن تلقي سلاحك، فتخرج إلينا، فتسلم.
- لماذا?
- قالوا: رحمة بي وبأبيك.
- قه، قه، قه..
- أتطلق الرصاص على البطن الذي حملك?
- بل أقهقه، يا أماه. أرأيت كيف أصبحوا يتحدثون عن الرحمة. فكيف بهم إذا لعلعت?
فتنحنح العسكر.
- ولكنهم لا يرحمون أحدًا يا ولدي.
- فخفتهم?
- خوفي عليك يا ولاء.
فأطبق صمت، حتى عادت تناديه:
- ولاء يا ولدي، ألق سلاحك واخرج!
- يا امرأة، يا التي جئت معهم، إلى أين أخرج??
- إلى الفضاء الرحب يا بني. كهفك ضيق، مسدود كهفك. وسوف تختنق فيه.
- أختنق?.. أتيت إلى هذا الكهف كي أتنفس بحرية. مرة واحدة أن أتنفس بحرية!
في المهد حبستم عويلي. فلما درجت أبحث عن النطق في كلامكم، لم أسمع سوى الهمس.
في المدرسة حذرتموني: احترس بكلامك! فلما أخبرتكم بأن معلمي صديقي، همستم: لعله عين عليك! ولما سمعت حكاية الطنطورة، فلعنتهم، همستم في أذني: احترس بكلامك!
فلما لعنوني:
احترس بكلامك!
وحين اجتمعت بأقراني، لنعلن إضرابًا، قالوا لي، هم أيضًا: احترس بكلامك!
وفي الصباح، قلت لي، يا أماه: إنك تتكلم في منامك، فاحترس بكلامك في منامك!.. وكنت أدندن في الحمام، فصاح بي أبي: غيِّر هذا اللحن. إن للجدران آذانًا، فاحترس بكلامك!
احترس بكلامك! احترس بكلامك!
أريد ألاّ أحترس بكلامي، مرة واحدة!
كنت أختنق!
ضيق هذا الكهف يا أماه، لكنه أرحب من حياتكم!
مسدود هذا الكهف يا أماه، ولكنه منفذ!
فأطبق صمت حتى سمعنا صليل أسلحة من بعيد، فهتفت به أمه:
- منفذ?
الموت ليس منفذًا بل نهاية.
ليس في حياتنا ما يعيب حياتنا. فإذا استترنا فعلى أمل الخلاص استترنا. وإذا احترسنا فحرصًا عليكم.
أي عيب في الخروج إلينا، إلينا نحن يا ولاء، أبيك وأمك. وحيدًا لا تقدر على شيء.
- أقدر عليكم.
- لسنا أعداءك.
- لستم معي.
- بني، احترس..
- قه، قه، قه.. قوليها، يا أماه: احترس بكلامك! لقد أصبحت حرًا!
- حرًا..
كنت أعتقد أنك حملت السلاح لتنتزع حريتك!..
فأطبق صمت حتى سمعتها تقهقه:
- لو كنا أحرارًا، يا ولدي، ما اختلفنا. لا أنت تحمل سلاحًا ولا أنا أدعوك إلى احتراس. إنما نحن نسعى في سبيل هذه الحرية.
- كيف?
- مثلما تسعى الطبيعة في سبيل حريتها. فالفجر لا يطلع من ليله إلاّ بعد أن يكتمل ليله. والزنبقة لا تبرعم إلاّ بعد أن تنضج بصلتها. الطبيعة تكره الإجهاض يا ولدي.
والناس لا يتحملون ما أنت مقدم عليه.
- سأتحمل عنهم حتى يتحملوا عن أنفسهم.
- ولدي، ولدي،
هل هناك أجمل من وردة في عروة شاب? ولكن أمها لا تستطيع أن تمدها بالغذاء. دعني أضمك إلى صدري.
فأطبق صمت، حتى سمعته يتأوه:
- أماه، أماه، حتى متى ننتظر برعمة الزنابق?
- لا تنتظر يا بني. إنما نحن نحرث ونزرع ونتحمل حتى يحين الحصاد.
- متى يحين الحصاد?
- تحمل!
- تحملت عمري.
- فتحمل!..
- سئمت خنوعكم.
- لدينا فتية وفتيات لم يخنعوا. فاحذُ حذوهم! تحملوا أطول ليل، فحملوا الشمس فوق جباههم. ما استطاعوا إخراجهم من أرض إلاّ إلى زنزانة. وما هدموا عليهم بيتًا إلاّ بعد أن هدموا عليهم أسطورة..إنك يائس، يا ولدي.
- لا أرى حولي سوى الظلام.
- في الكهف.
- حياتي كلها كهف.
- فأنت لا تزال في البصلة تتبرعم. اخرج إلى نور الشمس!
- أين مكاني تحت الشمس?
- تحت الشمس.
- الدنيا بخير، يا ولدي. فكم من شعب انتزع حريته. وسيأتي موسمنا.
- أتظلين تحلمين بالجزر السبع وراء البحيرات السبع?
- إنها جزرنا وبحارنا.
والسندباد، يا ولاء، كف عن رحلاته، وصار يبحث عن الكنوز في تراب أرضه.
- حياته على أرضه لا تطاق.
- حين تصبح الحياة أرخص من الموت يصبح ما أصعب من بذلها أن نعض عليها بالنواجذ.
- ستموتين يا أماه، دون أن يعود أهلك.
- قبل أن يعود أهلي!
- كيف?
- الزمن. دع الزمن يزمن.
- قه، قه، قه.
- أترميني بالرصاص? أتقتل التي خلفتك?
- بل الزمن يقتل التي خلفتني ويقتلني.
لا تستخف بالزمن، يا ولاء. فبدونه لا ينبت زرع فنأكل.
ولا تطلع شمس بعد مغيب..
فهل جاء?
- سيجيء.
ولا يخرج سجين من سجنه.
- فهل خرج?
- سيخرج.
ولا تعبر تجربة حتى يتعظ الناس.
- فهل اتعظوا?
- هل تريد لجيل واحد أن يحسم في الأمر?
- جيلي
- لماذا?
- لأنه جيلي.
- بأي سلاح يحارب جيلك?
فأطبق صمت.
حتى سمعتها تسأله، مثلما كانت تسأله، وهو طفل، أن يقبلها:
- أي سلاح في يدك الآن يا ولاء?
- رشاش قديم من الصندوق.
فرأيتها تندفع راكضة نحو القبو المهجور، ويداها ممدودتان على جانبيها، كجناحي طير يسرع إلى عشه ليحمي جوازله، حتى كادت تغيب في فتحته المعتمة. وإذا به يصيح فيجمدها في مكانها:
- إنهم قادمون وراءك، يا أماه. فهل تحمينهم بحبي?
- لا يا ولاء، يا ولدي، بل آتية أنا إليك. ففي الصندوق رشاش آخر. وسأحميك بحبي.
وما أن غابت عن ناظري حتى اختلط الحابل بالنابل. ولم أعد أميّز الأشباح المندفعة من هنا ومن هناك. وقد تركوني لحالي. فما كنت أسمع سوى صراخ مكبوت وأوامر مبحوحة. وكنت أتقدم، ثم كنت أتأخر. وكنت أدور على نفسي. وأسمع شتائم ولكنها لم تكن موجهة إلى شخصي.
وفيما يشبه الحلم، وقد غابت النجوم وكلح وجه القمر، رأيتهم يندفعون نحو البحر، فأسمع طشًا وأحس برش، وقائلاً يقول: غطسا هنا. وآخر يقول: من هنا. ولا أرى الرجل الكبير بل أسمع صوته يمنعهم عن إطلاق أية رصاصة، ويحثهم على الغوص.
ولم أكن موجودًا حين أحضروا الكشافات والضفادع البشرية. فقد تأبطني معلمي يعقوب، الذي وقف إلى جانبي، وأعادني في سيارته إلى بيتي المقفر.
وعادني، في اليوم التالي، وأمرني أن أبقي ما حدث سرًا مكتومًا فيعفي عني وأعود إلى عملي.
- بعد أن قتلتموهما?
فأخبرني، وأنا مذهول بين مصدق ومكذب، إنهما استطاعا الفرار ولم يعثر لهما على أثر.
وقال إنهما شوهدا يتجهان نحو البحر، الأم وولدها، هذه تحتضنه وهو يدعمها، حتى غاصا في البحر. ففوجئ العسكر بالأمر. ولكن الرجل الكبير منعهم عن إطلاق الرصاص حتى لا ينتشر الخبر. وهو موقن أنه سيلقي عليهما القبض، أو أن يموتا غرقًا. إلاّ أن البحث عنهما، في الليل ثم في النهار، لم يكشف عنهما حيين، ولم يكشف عن جثتيهما. فبقي مصيرهما سرًا غامضًا. ثم قال: ويجب أن يظل سرًا مصونًا من أسرار الدولة.
وكان يعقوب، في الأيام الأخيرة، شفوقًا بي. ولكنني لم أشأ أن أطلعه على ما أعلمه عن الكهف في جوف الصخر في قاع البحر. وكنت أعتقد أنهما قررا الموت فيه.
وكم من مرة حاولت أن أستجلي الأمر، فلا تطاوعني نفسي. فإن بارقة أمل، بأنهما على قيد الحياة، خير من أن أغرق هذه البارقة.
وكنت أذهب إلى شاطئ الطنطورة، وقد أصبح عامرًا بالمستحمين، فأقعد قعدة ولاء على صخرته في لسان البحر، وأرسل خيطي، وأناديه بقلبي أن يرد عليّ.
فإذا بطفل يهودي وقد قعد إلى جانبي دون أن ألحظه يفاجئني بالسؤال: بأية لغة تتكلم يا عماه?
- بالعربية.
- مع من?
- مع السمك.
- والسمك، هل يفهم اللغة العربية فقط?
- السمك الكبير، العجوز، الذي كان هنا حين كان هنا العرب.
- والسمك الصغير، هل يفهم العبرية?
- يفهم العبرية والعربية وكل اللغات. إن البحار واسعة ومتصلة. ليس عليها حدود وتتسع لكل السمك.
- أوي فافوي
فيناديه والده فيخف إليه. فأسمعهما يتحدثان، فأهش فيهما وأبش. فيحسبني الطفل سيدنا سليمان ويشيران نحوي. فيبتسم والده. فيمران قريبًا. فأكبر في عينيه حتى يصر على البقاء معي، فأعطيه من صيدي سمكة صغيرة. فيحدثها ولا تتكلم. فأقول له: إنها لا تزال صغيرة. فيرمي بها إلى البحر كي تكبر وتتعلم النطق. فأقول في نفسي: لو بقي الناس أطفالاً لما كبر ولاء ولما ضاع. ألم يكن الرجل الكبير في يوم من الأيام، طفلاً صغيرًا?
ولقد عشت فيما بعد شهورًا وأنا موقن بأن إشارة ستأتيني منهما. فلا يطرق طارق بابي حتى أقوم ملهوفًا: لعله منهما.
ولما سمعت أن من بين كتائب الفدائيين كتيبة باسم الطنطورة، أخذت أقفل النوافذ وأستلقي على فراشي وأنا أحتضن الترانزستور. حتى أقبل اليوم الخامس من حزيران فسمعت في ليلته الطويلة صوتًا جهوريًا يصرخ من تحت:
- أطفئ الضوء، أطفئ الضوء! فأطفأته ولم أنم .

12-حادث أصعب على التصديق من الموت على الأحياء

ذلك أننا انشغلنا عن وحيدنا ولاء بصون السر وبالبحث عن الكنز في أعماق البحر، في خفاء أعمق منه غورًا.
حتى أصبح شابًا يافعًا غريب الأطوار. لا يتكلم إلاّ مضطرًا. فإذا تكلم انتشر كلامه انتشار غيوم الصيف التي تتخيلها كما يعن على بالك: رؤوس حيوانات، أو فوارس على أفراس وهي تشن الغارة، أو ملاك مسجى تحت قدمين.
فأقبل ذلك اليوم المشؤوم، من الخريف الأخير قبل الخريف الحزيراني المقيم . فإذا بضوضاء وجلبة تدهمني من كل جانب. وإذا بعسكر كثير يدخلون علىّ في مكتبي. وقد أشرعوا سلاحهم الناري. وعلى رأسهم الرجل الكبير وقد خلع نظارتيه السوداوين ولبس وجهًا أشد سوادا من القطران. وهو ينفض أطرافه وجوانحه. ووقف وراءه معلمي يعقوب، وقد طأطأ رأسه. ووراءهما وحواليهما العسكر. فأقعدتني المفاجأة عن القيام وأنا أحسب أن القيامة قامت.
وزاغت أبصاري، فرأيت صفوفًا متراصة من الرؤوس تتراقص في جدران الغرفة وعلى أرضها. وكنت أرى هذه الرؤوس تتسرب من بين أصابع يدي، المشلولتين فوق المكتب. وكانت هذه الرؤوس تفغر أفواهها وتصرخ في وقت واحد بكلام لم ألتقط منه سوى شتائم عربية، أضحكتني صياغتها غير المألوفة، فضحكت، فأضحكني ضحكي، فأغربت بالضحك حتى تقطعت خواصري. ولم أثب إلى رشدي إلاّ بعد أن وثبوا عليّ فطرحوني أرضًا فاقد الرشد.
وظللت فيما يشبه الغيبوبة وهم يحاولون أن يهزوا دماغي المهزوز برواية أصعب على التصديق من الموت على الأحياء:
ولاء، ابني وحيدي، هذا الشاب الحيي الضئيل، الذي يأكل القط عشاءه، أصبح فدائيًا وأعلن العصيان المسلح على الدولة!
وأنا المسؤول. وتلك الحية الرقطاء، الطنطورية، التي كان يجب أن ترحل مع أهلها، مسؤولة. ومعلمي يعقوب مسؤول. هذا الحمار الذي أعماه شرهه الشرقي، إلى طعامي الشرقي، عن واجب اليقظة. ولا ريب أننا تآمرنا، (كلكم، كلكم)، على الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، حتى نخرب بيته. (ولكنني سأخرب بيتكم)!
أما الدولة فتعرف كيف تحفظ أمنها، وتضرب حتى لات ساعة مندم.
فقد استطعت أن أجمع، بين الشتيمة والشتيمة والغيبوبة والغيبوبة، شتات رواية أشبه بحكايات المردة والجن والعفاريت، عن حياة أخرى من حيوات وحيدي ولاء.
أنه أنشأ، مع اثنين من زملاء الدراسة، خلية سرية. فانتشلوا من كهف، في غور صخري في بحر الطنطورة المهجور، صندوقًا محكم الصناعة والإقفال، لا يدخله ماء ولا تناله رطوبة، فيه سلاح وفيه ذهب كثير.
- باقية، يا باقية، أهذا ما اتفقنا عليه?
تروا سلاحًا وذخيرة ومتفجرات. وأقاموا مخزنًا وموئلاً سريًا في قبو مهدوم ومهجور في خرائب الطنطورة. فأرسلوا أحدهم إلى لبنان حتى يقيم الصلة بالفدائيين.
قال الرجل الكبير: فوصلناه بأيدينا. أمسكنا به وبالآخر.
أما ولاء فالتجأ إلى الموئل في القبو، وقد أجمع أمره على أن يموت شهيدًا.
- فجئناك يا سعيد، يا ابن النحس، يا ابن المتشائل، كي تقوم وتمضي إليه فتقنعه بأن يرجع عما هو مقدم عليه من انتحار صبياني، شفقة بك وبأمه. ولم نأتك إلاّ لأنك رجلنا. فنريد أن نخدمك كما خدمتنا.
قم إلى بيتك فاصحب أمه، الطنطورية، وامضيا إلى خرائب الطنطورة قبل أن تصبح حياتكم كلها خربة واحدة. فإذا سلم منحناه الحياة، من أجل خاطرك. فإذا أبى إلاّ أن يفضحنا متم.
فلما لم أستطع القيام على رجلي، حملوني حملاً، فتحاملت باقية على نفسها وعلى دموعها. ولم أشأ أن أعاتبها صونًا للسر، حتى ألقوا بنا على شاطئ الطنطورة. ووقف العسكر بعيدًا. وكانت الشمس ترنو إلى المغيب في أمسية جف ريقها وحنا شفقها علينا شفقة.