الأربعاء، 13 فبراير 2008

17-هل كان سعيد هو رأس الخيش?

أصبح رأيي في جهازه مقررًا. فلو كان يستطيع، حقًا، أن يحصي عليَّ حركاتي وسكناتي لكان سجل على لقائي الغريب برجل الفضاء. ولكنه لم يفعل.
فقررت أن أطمئن إلى هذا الأمر، فأزور صاحبي الفضائي في دياميس عكا، فقد يحتاج إلى الحذر. وإني لمحتاج إليه.
فبالغت في الخضوع لرؤسائي طول الأسبوع وقد قر قراري أن أفعلها وأن أتسلل إلى عكا يوم السبت.. وهو يوم عطلتنا.
وكان السبت، الذي وقع عليه الاختيار، هو اليوم الحادي عشر من آخر شهر في سنة 1948 ذات الكف العفريتية. فأنا لا أنسى هذا التاريخ الذي أصبحت، فيما بعد، أؤرخ به حياتي - ما قبل وما بعد.
في مساء الجمعة، عشية السبت، كنت منزويًا في داري، أجمع شتات أفكاري على أسلم طريق أختاره في تسللي إلى عكا صبيحة الغد.
وكنت أطفأت النور وآويت إلى الفراش مبكرا حتى لا تزورني جارتنا الأرمنية العانس التي ما كانت تطيب لي إلا حين نشرب حتى نثمل - أنا حتى أحسبها صغيرتي ( يعاد)، وهي حتى تحسبني كبيرها سركيس (الذي ذهب مع العرب).
وكان من عادتها أن تنشط نشوتها بالتمتمة باللغة الإنجليزية عن كلارك جيبل وشارل بواييه وأشباههما.. فلبستني آفتها. فصرت أتمتم، مثلها، بما يقال وبما لا يقال، حتى إني لعنت، في اليوم السابق، الباذنجان وكل من يستطيبه. فقامت غاضبة دفاعًا عن الباذنجان المحشو بالبرغل وباللحم. فاحتبست. لذلك قررت، من باب اليقظة، ألاّ أفتح لها الليلة الباب.
وأنا في هذه الهواجس ومثلها، إذا بطرق على الباب. قلت: جاءت، ولكنني لن أفتح لها، ولن أعتذر عما بدر مني في حق الباذنجان. فعاد الطارق يطرق. فراودتني النفس الأمارة. فقلت: هل أفتح لها ولا أتمتم? فعاد الطرق على الباب. فقمت وأنا أقول: لن يكون الجهاز يحكي بالأرمنية. وهذه مسكينة وأنا مسكين. وفتحت الباب.
فإذا أمامي امرأة وسط، ذابلة السحنة وخضراء العينين، تسألني في استحياء ورجفة: سعيد?
فأخذتني المفاجأة، فانعقد لساني، وأنا أنظر في عينيها الخضراوين وأطلب من نفسي ملحًا أن أتذكر هذا الوجه الذابل. لا بد أنها من قريباتي في القرية، أو جاءت من وراء الخطوط. فما جاء بها في هذه الليلة الليلاء?
قلت همسًا: تفضلي. وانتابتني المخاوف.
قالت: أختي (يعاد) تحت. فهل تصعد?
فبدأت أشك فيما أرى وفيما أسمع. لقد كنت، حين تلح الحاجة عليّ ويستفرغني الفراغ، أقعد مفتوح العينين، أو أمشي مفتوح العينين، فلا أرى سوى (يعاد)، فأقبض بيدي على يدها، ثم أضمها إلى صدري، فنروح في غيبوبة لم أقم منها مرة، وأنا في مكتبي في اتحاد عمال فلسطين، إلاّ على أبي مصطفي الأعرج وهو ينقض علىّ بعصاه لأنني تركته ينتظر خارج المكتب نصف نهار، بعد أن قلت له أن ينتظرني ربع ساعة، فألقاني في غيبوبة أخرى.
- هل حقًا أنت أخت (يعاد)?
- فهل تصعد?
- (يعاد)، (يعاد).
- عد! لا يصح أن تنزل إليها بثيابك الداخلية. عد والبس ثيابك، فأنا أناديها.
ففعلت ما نصحتني أخت (يعاد) بأن أفعله. ورحت أتراكض بين الغرف وأنا ألبس ثيابي، تارة، وألقي في المرحاض بما احتوته منافض السجائر من بقايا أعقابها الملوثة بأحمر شفاهٍ، أخرى. فلما سحبت حبل ماء الشطف فلم ينهمر، ملأت دلوا وألقيته فيه، فانسكب الماء على الأرض، فانسحبت عليه، فوقعت على يدي وركبتي أمام الباب المفتوح، فإذا أنا، على هذه الحال، أمام قدمي (يعاد) بعد طول الغيبة.
فقالت: جازاك!
فانتصبت واقفا والماءان يتصببان من وجهي، ماء الوجه وماء المرحاض. فتهالكت على أقرب مقعد ورحت أبكي. فتراكضت (يعاد) وأختها نحوي، وجففتا الماء ودموعي، وطمأنتاني على أن كل شيء يصلح.
فأي شيء هذا الذي يجب أن أصلحه?
فقالت (يعاد) معاتبة: أنت تعرف يا سعيد، سامحك الله، ما فعلت بأبي وبالآخرين.
ولكنني، سامحني الله، لم أفهم شيئا.

فقالت أخت (يعاد) إن (يعاد) جاءت اليوم من الناصرة، مشيًا على الأقدام، عبر شفا عمرو، فأبطن، فوق الجبال وحيدة، لتخبر أختها في حيفا بأن والدهما قد ألقوا القبض عليه في الناصرة، وبأنني أنا، سعيدًا، السبب في القبض عليه، وبأنني أرشدتهم إليه.
- أنا?
فقالت (يعاد): كلهم يقول أنت. أنت رأس الخيش?
- أنا?
- وأبوك من قبلك?
ومن خلال العتاب، المشبع بالنحيب وبأيماني المغلظة أنني لا يمكن أن أخرب بيت أحد من الناس، فكيف ببيت (يعاد)، فهمت أن أبا (يعاد) كان قد هاجر مع عائلته من حيفا. إلى الناصرة، وذلك بعد لغم الرفينري الأول . فلما سقطت عاصمة الجليل دعا الجيش الأهالي إلى تسليم أسلحتهم. فلما أبلغهم رئيس البلدية أن لا سلاح في الناصرة سوى طاولات شيش البيش التي انكبوا عليها في الساعات التي رفع فيها منع التجول، بدأت عمليات التطويق.
فطوقوا الحارة الشرقية، التي التجأت إليها العائلة. وحشروا الرجال في الأرض الخلاء عند الجابية، وراء كنيسة الأقباط، طول النهار في الحر الأوار وبدون ماء، مع أن الجابية كانت تفيض تحت أقدامهم ماء مقدسة من عين العذراء المقدسة.
وقالت (يعاد) متباهية إنها هي التي ذكرت الشيوعيين ببيت الشعر الذي جعلوه عنوان نشرتهم والتي وزعوها في أثناء التطويق:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
فاستدعاهم الحاكم العسكري. فلما أنكر أن يكون الجيش قد منع جمال الحارة ودوابها عن ماء الجابية يوم التطويق، حاولوا أن يفهموه أن الأمر تورية. فثارت ثائرته دفاعًا عن كرامة بني الإنسان الذين لا يصح تشبيههم بالدواب، حتى ولو كانوا أعداءنا العرب. (لقد أصبحتم مواطنين، مثلكم مثلنا). وطردهم من حضرته.
وكان الجيش، أثناء التطويق، قد نحَّى جانبًا كل من أرشد إليه رأس الخيش، ثم نقلهم إلى سجن الجملة، على اعتبار أنهم أسري حرب. وكان من بينهم والد (يعاد).
- فما رأس الخيش هذا?
قالت (يعاد): رجل أخفوا رأسه بعديلة خيش، ثقبوا فيها ثلاثة ثقوب، لعينيه ولفمه. وأقعدوه وراء طاولة تحوطها عسكر. وكان رجالنا يمرون أمامها فيتحققونهم. فإذا اهتز رأس الخيش إلى أمام مرتين، نحوا الرجل عن بقية الرجال. فأخذوا، في التطويق الواحد، ما لا يقل عن خمسمائة رجل وولد، أسرى حرب.
فلماذا فعلتها يا سعيد

ليست هناك تعليقات: