(11)
كيف لم يمُتْ سعيد شهيدًا في وادٍ على الحدود اللبنانية
فلما كنت مطمئنًا على قدري، ومتحققًا أن الأسوأ لن يصيبني، هبطت الهوينا درجات الباب الشمالي، فملأت طاسة ماء من سبيل الطاسات، فارتويت وترحمت على أحمد الجزار. ثم سرت في سبيلي.
فإذا أمامي الطريق العريض حيث المسار شمالاً، إلى رأس الناقورة، فلبنان. فخفضت رأسي خجلاً من غزالة. وتحولت عنه.
كنا ثلاثة شبان زملاء صف واحد. فقررنا في نهاية الإضراب الكبير (1939) أن نعبر الحدود إلى لبنان فنزور دار القيادة في بيروت نطلب سلاحًا.
فركبنا سيارة الأجرة حتى قبيل رأس الناقورة. ثم انحرفنا يمينًا سيرًا على الأقدام بين كروم العنب. فهبطنا واديًا عميقًا، فأظلمت السماء. فلما أخذنا نصعد على كتفه المقابل، أنهكنا التعب وألهبنا العطش. فاستحثني الآخران، فبكيت. فخلفاني وراءهما بعدما خيراني بين الاستمرار في الصعود أو أن أموت شهيدًا. فاخترت الأمر الأول. ولم ألحق بهما إلاّ بعد أن كانا قد ارتويا من قطوف الدوالي الدانية. فرحت أروي غليلي، فلم ينتظراني.
وإذا بفتاة في مثل عمري، تنادي والدها: هذا شاب مجاهد من فلسطين. فيجيبها الفلاح من بعيد: اسقيه وأطعميه. فنتجاذب أطراف الحديث. فأقع في حبها. فتقول إن اسمها غزالة، وإنني غزالها. فقد كنت خلب بنات.
فأعدها بأن أعود إليها بعد أسبوع، ومعي السلاح والذخيرة، فألتقيها تحت هذه الدالية.
فقالت إنها ستخبر والدها بالأمر، فلن يمانع بأن يخطبها شاب حلو من فلسطين.
فأنحني عليها كي أقبلها. فتنفر غزالة ضاحكة وهي تقول: عد أولاً من بيروت. فلا أتبين سبب صدها. ولكنني أسرع كي ألحق برفيقي.
فأراهما أمامي على طريق الأسفلت تحيط بهما جماعة من شرطة الحدود اللبنانية. فقلت في نفسي: مليح أنني تأخرت عنهما، وأنني علقت غزالة.
فرأيت رجال الشرطة وهم ينحرفون بهما عن طريق الأسفلت، يسارًا، وينزلون بهما إلى معسكر على الشاطئ، فيغيبون فيه.
فسرت في الطريق نفسها مبتعدًا عنهم. فلم يلحظوني. قلت: نجوت. ولكن، أين أسير? لا مال عندي ولا عنوان. فكيف أتدبر أمري في بيروت?
قلت في نفسي: هذا أسوأ من الحبس. فعلي أن أعود إليهما، فالحبس أقل سوءًا.
فعدت إليهم. فسألني ضابطهم: ومن أنت? قلت: ثالثهم. قال: فلماذا سلمتنا نفسك? قلت: لا مال ولا عنوان.
- فأين مالكم?
قلنا: لدى كبيرنا.
وكنا جمعنا لديه عشرين جنيهًا، مالاً صامتًا، أخذ العسكر نصفه وشتمونا. وأما النصف الآخر فأبقوه مع كبيرنا، فأنفقناه فيما وراء البنك في بيروت. وعدنا على الطريق نفسها. ولكننا لم نحد عنها نحو كروم الدوالي، فقد كان الضابط اكتفى بالجنيهات العشرة ذهابًا وإيابًا. فلما التقانا عائدين حيانا وسأل: أين السلاح أيها المجاهدون? أجاب كبيرنا: سلاحنا العلم، وما معنا شروى نقير. فلم يشأ الضابط أن يقتسمها. بل صفع كبيرنا على قفاه وصاح: اعبروا! فطرنا هاربين نحو حدودنا، وكبيرنا يقول: العلم بالشيء ولا الجهل به.
فقلت: مليح أن صار هكذا، ولم يصر غير شكل. فصفعاني. فبكيت.
ولكنني كنت أبكي على غزالة التي ضاع غزالها في بيروت. وتبينت سبب صدها.
وبقيت، وأنا في صور فيما بعد لاجئًا، أتوق إلى زيارة الدالية على الحدود، حتى سمعت الدكتور عشيق أختي، يومًا يقول: أصبح الفلسطينيون لاجئين تنفر البنات منهم. فتحولت نحو اللاجئات. فاللاجئات للاجئين. فوجدتهن، على غير حالتنا، مشتهيات. فانشغلن عنا. فعدت إلى دولة إسرائيل وأنا عطشان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق