الاثنين، 14 مايو 2007

(11)

كيف لم يمُتْ سعيد شهيدًا في وادٍ على الحدود اللبنانية

فلما كنت مطمئنًا على قدري، ومتحققًا أن الأسوأ لن يصيبني، هبطت الهوينا درجات الباب ‏الشمالي، فملأت طاسة ماء من سبيل الطاسات، فارتويت وترحمت على أحمد الجزار. ثم ‏سرت في سبيلي. ‏
فإذا أمامي الطريق العريض حيث المسار شمالاً، إلى رأس الناقورة، فلبنان. فخفضت رأسي ‏خجلاً من غزالة. وتحولت عنه. ‏

كنا ثلاثة شبان زملاء صف واحد. فقررنا في نهاية الإضراب الكبير (1939) أن نعبر ‏الحدود إلى لبنان فنزور دار القيادة في بيروت نطلب سلاحًا. ‏
فركبنا سيارة الأجرة حتى قبيل رأس الناقورة. ثم انحرفنا يمينًا سيرًا على الأقدام بين كروم ‏العنب. فهبطنا واديًا عميقًا، فأظلمت السماء. فلما أخذنا نصعد على كتفه المقابل، أنهكنا التعب ‏وألهبنا العطش. فاستحثني الآخران، فبكيت. فخلفاني وراءهما بعدما خيراني بين الاستمرار ‏في الصعود أو أن أموت شهيدًا. فاخترت الأمر الأول. ولم ألحق بهما إلاّ بعد أن كانا قد ‏ارتويا من قطوف الدوالي الدانية. فرحت أروي غليلي، فلم ينتظراني. ‏
وإذا بفتاة في مثل عمري، تنادي والدها: هذا شاب مجاهد من فلسطين. فيجيبها الفلاح من ‏بعيد: اسقيه وأطعميه. فنتجاذب أطراف الحديث. فأقع في حبها. فتقول إن اسمها غزالة، وإنني ‏غزالها. فقد كنت خلب بنات. ‏
فأعدها بأن أعود إليها بعد أسبوع، ومعي السلاح والذخيرة، فألتقيها تحت هذه الدالية. ‏
فقالت إنها ستخبر والدها بالأمر، فلن يمانع بأن يخطبها شاب حلو من فلسطين. ‏
فأنحني عليها كي أقبلها. فتنفر غزالة ضاحكة وهي تقول: عد أولاً من بيروت. فلا أتبين سبب ‏صدها. ولكنني أسرع كي ألحق برفيقي. ‏
فأراهما أمامي على طريق الأسفلت تحيط بهما جماعة من شرطة الحدود اللبنانية. فقلت في ‏نفسي: مليح أنني تأخرت عنهما، وأنني علقت غزالة. ‏
فرأيت رجال الشرطة وهم ينحرفون بهما عن طريق الأسفلت، يسارًا، وينزلون بهما إلى ‏معسكر على الشاطئ، فيغيبون فيه. ‏
فسرت في الطريق نفسها مبتعدًا عنهم. فلم يلحظوني. قلت: نجوت. ولكن، أين أسير? لا مال ‏عندي ولا عنوان. فكيف أتدبر أمري في بيروت?‏
قلت في نفسي: هذا أسوأ من الحبس. فعلي أن أعود إليهما، فالحبس أقل سوءًا. ‏
فعدت إليهم. فسألني ضابطهم: ومن أنت? قلت: ثالثهم. قال: فلماذا سلمتنا نفسك? قلت: لا مال ‏ولا عنوان. ‏
‏- فأين مالكم? ‏
قلنا: لدى كبيرنا. ‏
وكنا جمعنا لديه عشرين جنيهًا، مالاً صامتًا، أخذ العسكر نصفه وشتمونا. وأما النصف الآخر ‏فأبقوه مع كبيرنا، فأنفقناه فيما وراء البنك في بيروت. وعدنا على الطريق نفسها. ولكننا لم ‏نحد عنها نحو كروم الدوالي، فقد كان الضابط اكتفى بالجنيهات العشرة ذهابًا وإيابًا. فلما التقانا ‏عائدين حيانا وسأل: أين السلاح أيها المجاهدون? أجاب كبيرنا: سلاحنا العلم، وما معنا شروى ‏نقير. فلم يشأ الضابط أن يقتسمها. بل صفع كبيرنا على قفاه وصاح: اعبروا! فطرنا هاربين ‏نحو حدودنا، وكبيرنا يقول: العلم بالشيء ولا الجهل به. ‏
فقلت: مليح أن صار هكذا، ولم يصر غير شكل. فصفعاني. فبكيت. ‏
ولكنني كنت أبكي على غزالة التي ضاع غزالها في بيروت. وتبينت سبب صدها. ‏
وبقيت، وأنا في صور فيما بعد لاجئًا، أتوق إلى زيارة الدالية على الحدود، حتى سمعت ‏الدكتور عشيق أختي، يومًا يقول: أصبح الفلسطينيون لاجئين تنفر البنات منهم. فتحولت نحو ‏اللاجئات. فاللاجئات للاجئين. فوجدتهن، على غير حالتنا، مشتهيات. فانشغلن عنا. فعدت إلى ‏دولة إسرائيل وأنا عطشان. ‏

ليست هناك تعليقات: