السبت، 28 أبريل 2007

(10)

سعيد يفشي بسرّ عجيب من أسرار العائلة

أَرِقْت، لا لأنني كنت مضطربًا، بل لأنني كنت مبهورًا بطالعي الحسن. فها أنا ذا أعود إلى أرض الوطن متسللاً، ‏فلا ينالني سوء، مع أن شعبي كله يهيم على وجهه مشردًا، فإذا لم يهم، هيَّموه. ‏
إلاّ أنا. أتسلل في سيارة الدكتور عشيق أختي، فيبقى عفاف أختي مصونًا بفضل زوجة مضيفنا في معليا، فأنتقل ‏من السيارة إلى الدابة، ومن الدابة إلى الجيب. وفي الطريق إلى عكا أنجو من الموت الأكيد بفضل انكماشي الذي ‏جاء في وقته. فألتجئ إلى جامع الجزار في كنف معلمي الذي عفوت عنه، فيأتي العسكر ويقذفون بالأشباح، ‏وبأطفال الأشباح، إلى ما وراء الخطوط، سوى سعيد أبي النحس المتشائل، فكيف لا أشعر بأن هذه الليلة هي ‏ليلة سعدي? ‏
لا يمكن أن يكون الأدون سفسارشك هو سبب كل هذا السعد. هل هو خاتم شبيك لبيك? أو هو قنديل علاء ‏الدين? إن في الأمر لسرًا خارجًا عن قدرة البشر. ‏
فقررت أن أخرج لأكشفه. وقبل أن أخرج. عفوًا يا أستاذ. بل قبل أن أروي لك ما جرى لي بعد خروجي، من ‏الضروري أن أعرّفك بخصلة أصيلة أخرى من خصال عائلتنا العريقة، بالإضافة إلى التشاؤل، وإلى أننا مطلاقون. ‏
كان والدي، حين استشهد، يستشفّ الأرض تحته. فلم يكشف الكمين الذي كمن له وأودي بحياته. ووالده، ‏من قبله، شجَّ رأسه بحجر الطاحون لأنه كان ينظر في الأرض بين قدميه، فلم يقم بعدها. ‏
فهذه هي شيمة عائلتنا النَّجيبة، أن نظل نبحث تحت أقدامنا عن مال سقط سهوًا من صرَّة عابر سبيل لعلنا ‏نهتدي إلى كنز يبدل حالنا الرتيبة تبديلاً. ‏
وثقْ، يا محترم، بأنه ما من عجوز، في طول بلاد العرب وعرضها، يسبق رأسها بقية جسمها إلى القبر، وتدب ‏مقوسة مثل رقم ‏‎8‎‏ ، إلاّ ولها صلة قربى بنا. وما من شاب ينصب الفخاخ لالتقاط نشرات الأخبار الإذاعية، لا ‏يبقي محطة ولا يذر، مثل صياد السمك الذي يلقي بصنانيره لعل السمكة الذهبية تعلق بإحداها، إلاّ ويكون ابن ‏عم أو ابن خال.‏

ولكن، يجب ألاّ تفهم من هذا الكلام أن جدودنا لم ينتهوا إلاّ برؤوس مهشمة. بل لقينا أموالاً ضائعة كثيرة، ‏جيلاً بعد جيل، فلم تبدل شيئًا من حياتنا الرتيبة. ‏
ومن أسرار العائلة أنه في زمن خروج الأتراك ودخول الإنجليز، خرج عمي لجدي من بيته في القرية الفلانية - ‏نحن، مثل الماسون، لا يمكن أن نفشي أسرارنا العائلية - وكان ينظر إلى أسفل كعادتنا. فاصطدم رأسه بحجر في ‏بيت خراب. وكانت جمجمته صلبة. فتدحرج الحجر من مكانه. فانكشفت أمامه هوة تغضنت في سفحها ‏درجات هبط عليها، فإذا بظلام خفاش. فقدح زناد فكره، فقدح زناده، فاستضاء. فرأى لحودًا رخامية أخذ ‏يفتحها فإذا فيها جماجم وبقية عظام، وغاليات ذهبية دسها في دكة سرواله، حتى فتح لحدًا أكبر من الآخرين، ‏فإذا فيه، مع الجمجمة التي كانت، كما قيل، أصغر حجمًا من بقية الجماجم، تمثال من الذهب الخالص للخان ‏مانجو، أكبر إخوة هولاكو، الذي صرعته الدوزنطاريا وهو يغزو الصين. فنقل جثمانه الضخم إلى عاصمة ملكه ‏على حمارين. ولم يكونوا قد بلغوا في ذلك الوقت ما بلغناه من علم، فلم يهتدوا إلى فرق الكشافة. ولم تكن ‏لديهم مدارس يصفون أولادها على الجانبين، كما فعلوا بنا في حيفا في الثلاثينيات، حين صفونا على جانبي ‏شارع الناصرة أمام عامود فيصل حاليًا ، لنشيع جثمان الملك فيصل الأول، الذي مات في سويسرة بغير ‏الدوزنطاريا. ‏
ولذلك قرروا أن يقتلوا كل من تلقاه الجنازة في طريقها، احترامًا لذكرى خان الأول، كما قتلنا في الثلاثينيات ‏ثلاثة أيام دراسة احترامًا للملك الأول. فأزهقوا في طريق هذه الجنازة، بحسب ما سجله المؤرخون، عشرين ‏ألف روح وروحًا واحدة، هي روح عمي لجدي الذي لفظ أنفاسه الأخيرة وهو متشبث بصنم الخان مانجو بعد ‏سبعة قرون. ‏
تبين عمي لجدي، وهو في القاع، أنه أخيرًا لقي الكنز الذي ظلت العائلة تبحث عنه عبر الأجيال، فدهمته ‏الفرحة، فأضاع فتيله، فلم يجد الباب. فأخذ ينادي على زوجه مقدرًا أن بيته، الذي بجوار الخربة، هو الآن ‏فوقه. وروى لها كل ما أسلفت ذكره. فسمعت صوته قادمًا من الأعماق. إلاّ أنه استحلفها بقبر والديها ألاّ تخبر ‏أحدًا، حتى أخاه. بل أن تنزل إلىه من فتحة الهوة في حائط الخربة المهجورة. فخرجت. فلم تجد أي بيت ‏مهجور في القرية. فعادت إلى البيت وألصقت جبينها بالأرض ونادت عليه. فشتمها على نزقها، وأمرها بالتزام ‏الصمت حتى الصباح. فالصباح رباح. وسيجد طريقه لوحده. ‏
فلما لم يعد، أخبرت أهله بالأمر. فقاموا يفتشون، فلم يجدوا أية خربة. ‏
ولم يشاؤوا أن يبلغوا الحكومة حتى لا تضع يدها على الكنز فيضيع الكنز عليهم. وظلوا يبحثون عنه وعن صنم ‏مانجو حتى قامت الدولة. أما زوجه، فلم تمت إلاّ بعد أن وجدت غيره، ولم يكن عاقرًا. ‏
وأما أنا، فقررت ألاّ أموت مقوس الظهر كأسلافي. ومنذ نعومة أظفاري أقلعت عن البحث بين قدمي عن كنز ‏للخلاص. بل رحت أبحث عنه فيما فوق، في هذا الفضاء الذي لا نهاية له، في هذا (البحر بلا ساحل) كما ‏وصفه محيي الدين بن عربي. ‏
فقد قيض لنا، ونحن في المدرسة الابتدائية، أستاذ مغضوب عليه مولع بعلم الفلك، حكى لنا حكايات العباس بن ‏فرناس وجول فيرن، وتعصب للفلكيين العرب القدماء، من ابن رشد، الذي كان أول من درس بقع الشمس ‏حتى البتَّاني الحرَّاني الذي كان أول من استنتج أن معادلة الزمن تتغير تغيرًا بطيئًا مع مر الأجيال، وأول من ‏توصل بكثير من الدقة إلى تصحيح طول السنة الشمسية. فإذا كانت مدتها الحقيقية، أعلن المغضوب عليه، هي ‏‏365 يومًا و5 ساعات و48 دقيقة و46 ثانية، فإن البتاني حددها بـ 365 يومًا و5 ساعات و46 دقيقة ‏و32 ثانية، أي بفارق دقيقتين وأربع ثوان. فقد كان العرب، حين يفكرون - قال المغضوب عليه - أسرع ‏حركة حتى من دوران الأرض حول شمسها، فأصبحوا الآن يتخلون عن ملكة التفكير لغيرهم. ‏
وكان المغضوب عليه يبقينا في الصف بعد الدوام، ويغلق النوافذ، ثم يحكي لنا متباهيًا عن أبي الريحان محمد بن ‏أحمد البيروني، الذي استنبط كروية الأرض وأن جميع الأجسام تنجذب نحوها قبل نيوتن بثمانمئة عام، وخصوصًا ‏عن الحسن بن الهيثم الذي كان، وهنا يخفت صوت المغضوب عليه فيصبح همسًا ثوريًا، أول عالم انتهج ‏الأسلوب العلمي المادي الحديث بضرورة الاعتماد على الواقع الموجود والأخذ بالاستقراء والمقارنة. فقد كان ‏العرب حين يفكرون - قال الأستاذ المغضوب عليه - يعملون ثم يحلمون، لا كما يفعلون الآن، يحلمون ثم ‏يظلون يحلمون. ‏
ومنذ ذلك الحين وأنا أحلم بأن يذكرني التاريخ حين يذكر فلكيينا الأقدمين. وبقيت أحلم على هذا المنوال حتى ‏جندلوا والدي، رحمه الله، وقامت دولة إسرائيل. ‏
وكان أستاذنا المغضوب عليه يؤكد لنا أن العرب هم أول من استعمل الصفر للغاية نفسها التي نستعمله لها ‏الآن، ثم قسم الواحد على صفر فأثبت لنا أن هذا الفضاء لا نهاية له، والكون فيه: ‏
يسبح في بحر بلا ســـــــاحل
‏ في حنــــــدس الغيب وظلمائه *‏
فلا بد أن تكون فيه عوالم مثل عالمنا، وأرقى منا، فلا بد أن يأتوا إلينا قبل أن نذهب إليهم. ‏
لقد خرج الأتراك وأتى إلينا الإنجليز، فلم يتزحزح أستاذنا المغضوب عليه عن نظريته هذه. فكيف أتزحزح ‏عنها، أنا الشاب وعمري كله أمامي، بعد أن خرج الإنجليز وأتتنا إسرائيل? ‏
منذ ذلك الوقت وأنا أنظر إلى أعلى وأنتظر مجيئهم، فإما أن يبدلوا حياتي الرتيبة المملة تبديلاً، أو أن يأخذوني ‏معهم. وهل هناك من بديل? لذلك خرجت من فناء جامع الجزّار، في ساعة الفجر الكاذب، ورحت أجوب ‏طرقات عكا المظلمة وأنا أتطلَّع إلى فوق. ‏

‏* لإبن عربي

ليست هناك تعليقات: