الأربعاء، 13 فبراير 2008

15-الدرس الأول في اللغة العبرية

لما اشتغلت زعيم عمال في اتحاد عمال فلسطين، أوقعتني الشجاعة في مأزق لم أنج منه إلا بمزيد من هذه الشجاعة. ولولا أصحابك، يا محترم، الذين كتبوا عني في جريدتهم، وهاجموني، فأيقنت أنني مهم لما وقع ما وقع. ولكن كان من الممكن أن يقع ما هو أسوأ منه.
فحين أيقنت أني مهم، تشجعت وذهبت عصرا، بالباص، إلى وادي الجمال، على شاطئ البحر تحت منارة اللاتين، حيث كان والدي، رحمه الله، قد شيد لنا بيتا بعرق جبين أخي الذي مزقه الونش إربا. ولم اخبر أحدا بنيتي على هذه المغامرة.
فلما عبرت السكة الحديد، وترحمت على شاعرنا مطلق عبد الخالق الذي دهمه القطار وهو يعبر الخط من هذا المكان، تذكرت كلمة نوح إبراهيم.
(( الدين لله أما الوطن فللجميع)) فأسرعت إلى خالتي أم اسعد التي تكنس كنيسة الكاثوليك منذ طفولتنا.
فوجدتها تكنس الحوش في المكان الذي تركناها فيه فقلت لنفسي: الحمد لله على أن شيئا لم يتغير، ولا مكنسة أم اسعد المصنوعة من عيدان العليق.
وانحنيت على يدها اقبلها. فصاحت أنا محصية يا خواجا! ولفظتها (( مخصية))* كما يلفظها العسكر... وأسرعت إلى غرفتها وأنا وراءها، لا افهم شيئا.
وقامت إلى أيقونة ستنا مريم، المعلقة فوق فراشها المرتب، فأزاحتها. فإذا بكوة في الجدار أخرجت منها صرة من قماش ابيض، فكتها مديرة ظهرها حرصا على ما في الصرة.
وكانت تردد: يا عدرا، هذه مصاري الجهاز!
ثم مدت يدها نحوي بقسيمة الإحصاء، المطوية بعناية. وصاحت بصوتها الضعيف: أنا مخصية، وفي رعاية سيدنا المطران. فماذا تريد مني يا خواجة؟
فصحت بها: أنا سعيد يا خالتي، فكيف تنسين؟
قالت: من سعيد؟ قلت: الطيراوي - ففي وادي الجمال كانوا يظنون كل قروي انه من الطيرة.
فدارت على نفسها عدة دورات. فأخذتها بين يدي. وجلسنا على الديوان وهي تسألني عن والدتي وعن أختي، وعن لبن الطيرة الذي لا يصلح غيره لشيخ المحشي.
قلت: وبيتنا؟
قالت سكنوه!
قلت: فهل تعرفينهم ؟
قالت: أنت ترى يا ولدي كيف خبا سراجي، وكل الخواجات خواجات. ولم يعد أحدا يصطاد سمكاً.
قلت: فهل يستقبلونني إذا زرت بيتنا؟
قالت: علمي علمك يا ولدي. ورسمت على صدرها إشارة الصليب فودعتها وقد أثارت هذه الإشارة هواجسي.
فلما مررت من أمام بيتنا ورأيت هناك غسيلا منشورا، خانتني شجاعتي فتظاهرت بأنني جئت أتنزه على شاطئ البحر. وأخذت اذهب وأعود من أمام بيتنا و في كل مرة أهم بان اطرق الباب فتخونني شجاعتي.
حتى أمسى المساء فخرجت امرأة تلم الغسيل فنظرت نحوي ثم هتفت بأمر فأسرعت مبتعداً ولكنني رأيت رجلا في مثل سنها يخرج ويجمع معها الغسيل قلت في نفسي: هذه خدعة فكيف يجمع رجل غسيل بيته؟ هذه فعلة لم يفعلها أبدا والدي رحمه الله، مع أنني لا اذكر والدتي إلا عاجزة وكثيرة الهم. فازددت سرعة حتى أصبحت في الشارع الرئيسي أمام فيلات موظفي حيفا العرب، الذين بنوها ورحلوا إلى لبنان، ليبنوا غيرها ويرحلوا وكان الظلام أطبق وكنت تعبا وخائفا من مغبة هذه المغامرة والطريق طويل.
وكان يمر بين الفينة والفينة عامل يهودي. عرفت ذلك من ثياب العمل التي كانت عليهم وكان جميعهم متوسطي العمر فالشباب والشابات في الجيش.ولم أكن احمل ساعة فاحتجت إلى معرفة الوقت لعل الباص أن يمر أو انه قد توقف في هذه الناحية النائية فبأية لغة أسال هؤلاء الناس عن الوقت؟ فإذا سألتهم بالعربية كشفوا أمري فبالانجليزية أثرت شكوكهم فرحت استعيد ما اذكره من كلمات عبرية حتى تبادر إلى ذهني أن السؤال عن الوقت بالعبرية هو ما شاعاه الذي وجهته يوما إلى فتاه قرب سينما ارمون فشتمت عورة أمي بالعربية الفصحى.
فلما اقبل احد هؤلاء العمال نحوي أطلقتها ما شاعاه؟ فتريث ثم هش في وجهي ثم كشف عن رسغه ثم صاح أخت. فلم أكن كسولا وتذكرت أن أخت هي ثمانية بالألمانية فترحمت على جارنا خريج شنلر وعدت مطمئنا إلى وادي النسناس مشيا على الأقدام وأنا مزمع على تعلم اللغة العبرية.
وفيما بعد تذكرت ما كنا تعلمناه في المدرسة عن فك رموز الهيروغليفية فأخذت اقرأ أسماء الدكاكين بالانجليزية فأقارن الحرف الانجليزي بقرينه العبري على لوحة الدكان حتى فككت الحرف فتابعته في الجريدة العبرية وتكلمتها بأسرع مما قرأتها وأخذني الأمر عشر سنين حتى ألقيت أول خطاب تحية باللغة العبرية وكان أمام رئيس البلدية حيفا فسجلها في صحيفته سابقة.
أما العجيب في الأمر الآن فهو أن صباني نابلس بعد ربع قرن من هذا الكلام أتقنوا اللغة العبرية في اقل من سنتين ولما تحول احدهم إلى صناعة الرخام علق على مدخل جبل النار لافتة بالخط الكوفي المقروء جيدا عن مصنع الشايش الحديث لصاحبه مسعود بن هاشم بن أبي طالب العباسي والشايش هو الرخام بالعبرية فليست الحاجة أم الاختراع فقط بل أيضا مصلحة كبار القوم التي أرخصت أمهاتهم فقالوا الذي يتزوج أمي هو عمي ومن مصالحهم أيضا أن يحولوا بين العامة والاتفاق على لغة مشتركة حتى ولو كانت الاسبرنتو لكي لا يحولوا بينهم وبين ملكهم.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

رائع
رواية شيقة
وعملتي مجهود جبار يا بنتي