الثلاثاء، 13 مايو 2008

2-الشَّبه الفريد بين كنديد وسعيد

فينتبه صاحبي الفضائي على أزيز طائرات نفاثة تروح وتغدو فوق البحر، شمالاً إلى رأس الناقورة ثم تغدو فتختفي وراء الجبل فأحسب أن سمكة مذعورة شدت في خيطه. فأشد في خيطي شدًا خفيفًا. فيهدئ من روعي.
ويقول: تذكرت ما أتاني من تقول أصحاب صاحبك على ما نشره من رسالتك الأولي إليه وقولهم: احتفز الأستاذ ليشب فوقع دون كنديد إلى الوراء مئتي عام! فأقول:
ما شأنه وهو رسول? فما على الرسول إلاّ البلاغ!
فيقول:
كنديد متفائل، أما أنت فمتشائل.
فأقول:
هذه نعمة خص بها قومي من دون بقية الأقوام.
فيقول:
إن في الأمر لمحاكاة.
فأقول:
لا تلمني، بل لُم هذه الحياة التي لم تتبدل، منذ ذلك الحين، سوى أن (الدورادو) قد ظهرت فعلاً على هذا الكوكب.
فيقول:
أفصح.
فأفصح بالمقارنة بيننا وبين كنديد كما يلي بالتمام وبالكمال، لا أسقط سوى ما تكرر، عامًا عامًا، على مدى ربع القرن، وأقول:
ألم يعز بنغلوس نساء (الآبار) على ما فعله بهن عسكر (البلغار)، من اغتصاب ومن بقر بطون ومن قطع رؤوس ومن هدم قصور، بقوله:
(غير أنه انتقم لنا. فقد أصاب الآبار بمثل ذلك السوء بارونية مجاورة يملكها سنيور بلغاري)?
فبمثل هذه التعزية تعزينا نحن، بعد مئتي عام. وذلك في أيلول من عام 1972 يوم أن قتل رياضيونا في ميونيخ. ألم ينتقم لنا طيراننا الحربي بقتل النساء والأطفال، المبتدئين في رياضة الحياة في مخيمات اللاجئين في سوريا ولبنان، فتعزينا?
وفي اليوم التاسع والعشرين من الشهر الذي جاء بعد أيلول، في أكتوبر الخلسة، ولما عادت طائراتنا من ضرب مخيمات اللاجئين في سوريا ضربًا موفقًا، ألم يجتمع الوزير بنغلوس بأرامل رياضيينا المغدورين ويعزيهم بأن طائراتنا أصابت الهدف إصابات محكمة وفعلت فعلاً عظيمًا?
وحتى لما كانت هذه الدولة لا تزال تحبو، وتطلع على العالم بريئة براءة الأطفال، في أوائل تموز من عام 1950 ألم يردد كاتبنا المشهور جون كمحي، في (جروسليم بوست)، حكمة بنغلوس هذا فكتب:
(لقد شن العرب حربًا دامية على اليهود. فهزموا في هذه الحرب. فلا يحق لهم، إذن، أن يتذمروا حين يطلب منهم دفع ثمن الهزيمة التي نزلت بهم)?
وكنديد، (يعن له، في يوم من أيام الربيع، أن يتنزه وأن يمضي قدمًا معتقدًا أن استخدام الإنسان لساقيه، كما يروقه، هو امتياز للنوع البشري، كما هو امتياز للنوع الحيواني. ولم يكد يسير فرسخين حتى أدركه أربعة أبطال طول الواحد منهم ست أقدام. فأوثقوه. وأتوا به إلى سجن مظلم).
فلما استخدم هذا الامتياز البشري، والحيواني، بضعة أولاد من قرية الطيبة، يتراوحون في العمر بين تسع سنين واثنتي عشرة سنة، فمضوا قدمًا إلى مدينة نتانيا ليروا البحر بالعيون بعد أن سمعوا هدير موجه بالآذان. ألقي القبض عليهم. فاقتيدوا إلى محكمة عسكرية. فأوقع حاكم المحكمة العسكرية على هؤلاء الأولاد عقوبة الغرامة. فمن عجز عنها فبما يملكه حتى الطفل، وهو الحياة، شهرًا في السجن. ولما عجز أحد الأولاد عن دفع الغرامة، فافتداه والده بحياته شهرًا في السجن، أبى الحاكم إلاّ أن يزيد على سنن الطبيعة شهرًا واحدًا، فأمر أن تفتديه والدة الولد بشهر عاشر من حياتها بعد شهور الحمل التسعة
وما زال هذا الامتياز البشري مرهونًا بإذن الحاكم حتى يومنا هذا.
وفي قصة كنديد، لما استولى القرصان على سفينتهم في عرض البحر، فأخذوا يفتشون الرجال والنساء، روت امرأة عجوز ما نزل بها من تفتيش، فقالت: (ويعرون من فورهم كالقرود.. ومن الأمور التي تثير العجب سرعة تعرية هؤلاء السادة للناس. ولكن أكثر ما أدهشني هو إدخالهم إصبعا إلى مكان فينا جميعًا لم نكن، نحن النساء، لندع شيئًا يدس فيه غير أنابيب المحقنة.. وهذه عادة استقرت، منذ زمن لا يعرف أوله، بين الأمم المتمدنة التي تجول على البحر. وقد علمت أن هذا لا يفوت فرسان مالطا المتدينين مطلقًا، حين يأسرون تركا وتركيات. فهذا قانون دولي لم تخالف أحكامه قط)
فحتى يومنا هذا تطبق حكومتنا هذا القانون الدولي على الترك والتركيات من العرب، جوًا وبحرًا وبرًا - في مطار اللد، وفي ميناء حيفا، وفوق الجسور المفتوحة. فصار الترك والتركيات، حين يزمعون أمرهم على السفر، يتناظفون جيوبًا وحقائب وثيابًا، ظاهرة وباطنة. والتركية، حين ترغب في أن تضبع الشرطية، ترتدي أفخر الباطنيات النايلونية حتى تتأدب الشرطية حسدًا.
فيضحك صاحبي الفضائي ثم يقول مستريحًا: فهل تقوّل أصحاب صاحبك عليه، بأنه قلد كنديد، يعود إلى أنهم، حين كانوا يعرونهم، كانوا يدخلون أصابعهم هناك?
- هات مثلاً..
- قرية برطعة، في المثلث، المقطعة، مثل الطفل في محكمة سيدنا سليمان عليه السلام، إلى نصفين، نصف أردني ونصف إسرائيلي.
- الطفل في محكمة سيدنا سليمان، عليه السلام، ظل سليمًا ورفضت والدته الحقيقية اقتسامه
أما برطعة فاقتسموها وظلت سليمة. فلما سطا لصوص على قطيع بقر أردني، تعداده عشرة رؤوس، فمر الأثر بقرية برطعة، حملت الحكومة الأردنية على القرية حملة محمولة على ظهور الخيل. فجمع الفرسان الأهالي. وطرحوهم أرضًا. وأشبعوهم ضربًا ورفسًا حتى قام الأهالي وأشبعوا الفرسان، كل فارس دجاجتين، والخيل، كل فرس علفها. وبرطعوا في برطعة. فسميت برطعة. فلما عادوا أدراجهم، حمل جند بنغلوس على القرية وانتشروا يبحثون عن المتعاونين مع الغزاة الأردنيين.
فإذا وجدوا قرويًا لم يطرحه الفرسان الأردنيون أرضًا واكتفوا بلكمه، ثبتت تهمة التعاون مع العدو عليه. فإذا كانوا طرحوه أرضًا واكتفوا برفسه، فهو متعاون. فإذا ضربوه ولكموه ورفسوه ولم يطرحوه أرضا فهو متعاون، إلخ
وأنهي هذه المقارنة العجيبة بيننا وبين كنديد، فأقول:

كنديد، يا سيدي، كان يقول: (كل شيء في هذا العالم حسن لا ريب فيه. وذلك مع الاعتراف بإمكان الأنين قليلاً مما يحدث في عالمنا روحا وبدنا). أما أنا فحتى الأنين لم يكن متيسرًا لي.
فيقول صاحبي الفضائي: أفصح!
فأفصح وأقول:

ليست هناك تعليقات: