السبت، 24 مايو 2008

3-كيف تحول سعيد إلى هرة تموء


عشت في الدار الخارجة، خارج الدياميس، عشرين عامًا وأنا أريد أن أتنفس فأعجز، كالغريق، عن التنفس. ولكنني لا أموت. وأريد أن أنطلق فأعجز، كالسجين، عن الانطلاق. ولكنني أبقى حرًا.
وكم من مرة هتفت بمن حولي: يا قوم، إن فوق كتفي لسرًا خطيرًا أنوء بحمله، فأعينوني! فما خرج من تحت شاربي سوى مواء الهرة.
حتى آمنت بحلول الأرواح.
تصور روحك، بعد موتك، حلت في هرة. فبعثت هذه الهرة لتسيب في فناء بيتك. فخرج ابنك، حبيبك، يتلهى بما يتلهى به الصبيان من اللعب. فناديته، فمؤت. فزجرك. فناديته طويلاً، فمؤت طويلاً. فرماك بحجر. فذهبت في حال سبيلك وحالك كحال الفتى العربي في شعب بوان.
(غريب الوجه واليد واللسان)*
هكذا حالي: عشرين عامًا أهر وأموء حتى أصبح هذا الحلول يقينًا في خاطري. فإذا رأيت هرة توسوست: لعلها والدتي، رحمها الله! فأهش لها وأبش. وكنا نتماوأ أحيانًا.
فهتف صاحبي الفضائي وقد انبسط صدره: على رسلك يا ابن النحس! أراك تأهلت للانتقال إلى المرتبة التاسعة من الدعوة*
قال: كان أسلافنا، من إخوان الصفاء وخلان الوفاء، شبهوا الخلق من أمثالك بالبهائم العجمية. فلجموا كما تلجم البهائم بلجم الحديد الثقال، والأرسان لتقاد حيثما قيدت، وتمتنع عن الكلام بما أرادت. حتى بإذن ربها بانتباه نائمها، وبقيام قائمها، وبظهور الناطق. فيفك البهائم الأسيرة، والأشخاص الذليلة، من أسر العبودية وقيد المملكة ورق الذل، ويجعل الذين أهانوهم في مثل ما كانوا فيه، جزاء ما كانوا يعملون.
فهتفت به: فأنطقني!
قال: عد إلى الكتابة إلى صاحبك.
قلت: أخرجني إلى الناس وكأنني خارج عن الناس.
قال: وهل الذي استشعر* منهم بمختلف كثيرًا عنك، أما أنت فتقمصت هرة. وأما هو فتقمص شاعرًا. وكلاكما يهرب حتى يتنفس، ويختنق حتى لا يموت. ومنهم من احترف الأدب عجزًا. ومنهم من هرب من موقفه بتغيير موقعه.
وآخرون أخفوا عورة العجز بورقة الحكمة. وآخرون بالفلسفة، وبأن الزمان حاملهم لا محالة على العقرب القصير، إن لم يكن حاملهم على العقرب الطويل، إلى قيام الساعة، وبأن الشعب غير مؤهل لغير ذلك، وبما إلى ذلك من علل العليل.
ما هكذا فعل قائدنا، أبو ركوة *، قبل ألف عام. فلما رأى الناس يؤمنون بأن الحاكم بأمر الله يحكم بأمر الله، لم يسقط في يده، ولم ينتظر أن يصبح الشعب مؤهلاً، بل أقنعهم بأنه ثائر عليه، هو أيضًا، بأمر الله. فتلقب بالثائر بأمر الله على الحاكم بأمر الله. فحيد العزة بالعزة. والحاكم أظلم. فتبعه خلق كثير. وكنا بينهم.
قلت: وسري الدفين?
قال: فجد به
وها أنا فاعل.

*الإشارة إلى قصيدة المتنبي :
"مغاني الشعب طيبا في المغاني بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان "
*الإشارة إلى مراتب الدعوة الإسماعيلية التسع.
*أي أصبح شاعرا.
*أبو ركوة_ هو الوليد بن هشام بن المغيرة.ثار على الحاكم بأمر الله في مصر(996-1021)، ولقب نفسه بالثائر بامر الله ولقب بابي ركوة لانه كان يحمل ركوة ماء لوضوئه على الطريقة الصوفية.

ليست هناك تعليقات: