الأحد، 25 مايو 2008

5-كيف كانت التماسيح تعيش في نهر الزرقاء

ففي أوائل الخمسينيات، لما أتيتهم أصطاد السمك بين الصخور المشرئبة بعيدًا في عرض البحر على مصب نهر الزرقاء، الذي كانت تعيش التماسيح فيه فسماه إخواننا اليهود باسمها، نهر التنين، وهي التماسيح، مع أن شيئًا لا يعيش فيه الآن غير البوري الصغير وأفاعي النهر.
رأيتهم ينزلون عراة إلى مصب النهر قبل أن تنزل الشمس في مغرب البحر، فتية وفتيات سمرًا، أجسامهم برونزية وأبنوسية، ضامرة من غير صناعة، فينتظمون صفوفًا متوازية على عرض المصب. فيتقدمون صوب البحر وأيديهم في الماء يخرجونها، بين الحين والحين، تمسك بأسماك تتلوي. فيقذفونها نحو الشاطئ. فيتناولها نسوة يأسرنها في أكياس أعدت لهذا الغرض.
سوى صاحبتي الطنطورية، شقراء مثل روميات بيزنطية، فكانت تنتحي مكانًا قصيًا.

فتقف لوحدها تراقب هذا الصيد العجيب ولا تشترك فيه إلاّ بنظرات رانية تفيض بالحياة، وبشفتين تسجلان، برعشات الابتسامات الحيية، رعشات السمك وهو يقذف نحو الشاطئ.
وكانت في عمر الفتيان والفتيات، أربعة عشر عامًا أو خمسة عشر عامًا، جديدة جدة الفجر في هذه النواحي، إلاّ أنها اختلفت عنهم في عزلتها، وفي لون بشرتها الأبيض المشوب بالصفرة.
ولما كنت أعلم أن الأولاد الآخرين هم ذرية المصريين من الوجه القبلي، الذين حملهم إبراهيم باشا معه إلى فلسطين، فأقاموا في جسر الزرقاء وفي غيرها من قرى هذا الساحل، قلت في نفسي: لعل هذه الصبية الشقراء المنفردة، هي من أصل جارية رومية، فتربطنا صلة القربى في أصل شجرة واحدة? فأخذت أراقبها لمآرب تاريخية ولمآرب أخرى.
فلما نبهها وجودي، فغضت الطرف، فانعكست حمرة الشفق على صفحة وجهها الطبيعي، فكشفت عن عينيها أجفان الخجل، فرأيت الحيرة والدهشة وقبلة الحياة ترقص فيهما دبكة شمالية، أيقنت أنني هالك الساعة!
أستعيد هذه الذكريات، الآن يا محترم، وقد أقفر قلبي من هذا العرس. لم تبق الطنطورة، ولم تبق الطنطورية. أما قوم جسر الزرقاء فقد ارتدوا ثيابهم ولحقوا، في العمل البري، جيرانهم الفرادسة. ولم يعد ينزل منهم إلى النهر أو يقف على لسان البحر، سوى فتيان هاربين من مدرسة أو شيوخ هاربين من بقية حياة. ولولا الحركة المباركة، التي قامت بها جمعية الرفق بالطبيعة، فحالت دون السلطة وإقامة المحطة الكهربائية، التي أزمعوا إقامتها على مصب النهر، لما بقي اسمي - سعيد - محفورًا على كتف الصخرة الجيرية التي كانت الطنطورية تتكئ عليها ونحن نخيط، بالعيون، وشائج المستقبل.

ليست هناك تعليقات: