الأحد، 25 مايو 2008

4--كيف سبَقَت العروبة الأصيلة، بالتشمير، عصر التشمير

في الربيع التقيت الطنطورية. وما هذا هو اسمها، بل نسبة إلى قرية الطنطورة، على شاطئ البحر، حيث سقط رأسها قبل أن يسقط مسقطه بثلاثة عشر عامًا.

وكان الرحيل دهمها وهي في زيارة أخوالها، في قرية اسمها جسر الزرقاء، على شاطئ البحر أيضًا. فبقيت فيها حتى تشاطرني الهموم وأشاطرها ردحًا من الزمن.

وأمر هذه القرية، جسر الزرقاء، أمر عجيب. فكيف صمدت هذه القرية لدواهي الحرب والترحيل، مع أختها فريديس - الفردوس - المجاورة، لما قبض الريح بقية القرى العربية على الساحل، ما بين حيفا وتل أبيب - الطيرة وأجزم وعين غزال الطنطورة وعين حوض وأم الزينات، وهي أعمق منها جذرًا، وأصلب عودًا?

أما فريديس - الفردوس - فبقيت لحاجة في نفس يعقوب. وهو غير معلمي يعقوب من اتحاد عمال فلسطين. بل جيمس (يعقوب) دي روتشيلد، الذي أقام بحلالة مستوطنة (زخرون يعقوب) - لذكرى يعقوب - في أواخر القرن التاسع عشر. فانصرف أهلوها القادمون من أوروبا، إلى صناعة النبيذ الجيد، فتضعه مصايف العروبة، وقد تعددت أسماؤه، على موائد أمراء الجزيرة، من الربع الخالي، عبر الجسور المفتوحة، فسيتذوقونه، فينشد منشدهم:

يا بشر ما لي للسيف والحرب
وإن نجمي للهو والطرب
لو كان قصف وشرب صافية
مع كل خود تختال في السلب
والنوم عند الفتاة أرشفها
وجدتني ثم فارس العرب
ثم ينتشي منتشيهم صائحًا يتهم كل مطالب بتنفيذ قرارات مجلس الأمن بأنه خائن العروبة!
أما الفرادسة فقد أنقذهم عصر الكرمة، في دنان يعقوب، من أعاصير الحروب. والحق يقال عن أهالي زخرون يعقوب أن الربح الوفير، الذي جنوه من سواعد الفرادسة وسيقانهم، شد من سواعدهم حين حمل عليهم إخوانهم الصهيونيون، من ذوي العمل العبري النقي، التقي، الصافي صفاء خمرة تلك الدنان، حتى ضحكوا، بصفاء نية، من الحكاية التالية التي انتشرت عنهم وحدثني بها معلمي يعقوب، بصفاء نية:
إن آباء زخرون يعقوب اختلفوا يومًا:
هل من الحق، شرعًا، أن يعاشر الرجل زوجه في السبت، أم أن الأمر عمل، مثله مثل بقية الأعمال التي لا تجوز في السبت، شرعًا. فذهبوا إلى الحاخام ليقضي بينهم، هل الأمر عمل أم لذة. ففكر الحكم طويلاً، ثم حكم إنه لذة. فهات برهانك? قال: لو حكمت بأنه عمل لأعطيتموه العرب - الفرادسة!
فضحكنا، يعقوب لأنه يكره الأشكناز، وأنا لأنه ضحك.
ومن التجني أن تلوموا أبناء الفردوس - فريديس - على أنهم حافظوا عليه فضلة دنان.
فمن شيد المباني الشاهقة في هذه البلاد، وشق طرقها العريضة، وزفتها، وأحكم الاستحكامات، وحفر الملاجئ?
ومن زرع القطن، ثم جناه، ثم حلجه، ثم نسجه أثوابًا يتيه فيها سادة رغدان وبسمان، فقيل إن الاتحاد الوطني سيخيط منها لباسه الموحد، فيتساوى أعضاؤه، كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بملوكهم وبتقبع الكوفية، رمز العروبية، حتى إذا فارت دماؤها في عروقهم، تلثموا بها غب الشهادة، فإذا انفجرت دماؤها في عروقهم أقعوا يرغون ويزبدون بالحياة الأفضل، حتى إذا تأججت دماؤها في عروقهم لعنوا المستوردات الأجنبية سوى الملكية والكوفية والطيارة والخمارة والصورة والوقوف للصورة ولثم اليد وولي العهد و(تمتع الغني بما جاع به فقير) ، في الأسرة الواحدة الأسير، وقهر العمال والاستغلال، وقطع الرزق، والفسق، في عصر التشمير، وكان العرب سبقوا إليه حين قالوا: شمر للحرب وشمر للسلم وشمر للعمل وشمر للصلاة، ولم يقولوا: تقبع أو تسربل أو تكوكف أو تلثم أو ولول: عاش الملك!
من شيد المباني وشق الطرق وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل، فالعرب الباقية، صبرًا، فيما احتلته دولتنا من أرض لم يجد لها أحمد الشقيري متسعًا في ملفات خطبه الرنانة?
ولقد رأيتهم، في ساحة العجمي بيافا، شبابًا في عمر التمر، من غزة وجباليا وبيت لاهية وبيت حنون ودير البلح وخان يونس ورفح، يتمايلون على سيارة المقاول كتمايل شواهد القبور فوق إخوتهم الشهداء في مقابر غزة ، فآمنت بأن الأحياء يستطيعون هم أيضًا، أن يبقوا في وطنهم!
ورأيتهم في ساحة باريس (ساحة الحناطير، فالخمرة في الزمان الأول)، في حيفا التحتا، شبانًا في عمر نوارة اللوز والمشمش اللوزي والتفاح أبي الخد الأحمر، من قلقيلية وطولكرم وجنين وطوباس والسيلة واللبن، ينتظرون سيارة المقاول، فيتحسس سواعدهم ويروح النظر في قاماتهم الممشوقة، فيمتطي منهم من اشتد ساعده وقست ساقه. فاستعدت حالنا قبل عشرين عامًا. فآمنت بأن هذا الشعب لا يفنى!
ورأيتهم، في المغيب، يحشرون في سيارات النقل العتيقة، كما حشروا، في يومهم، صناديق البطاطا، وكوموا الشمندر في سيارات أحدث من السيارات التي ينقلون فيها، عائدين إلى مدنهم وقراهم، إلاّ الذين غض السيد المقاول الطرف عنهم ليبيتوا ليلتهم في بناء لم يتموا بناءه، يتسترون بالطوب من الطارقين: برد ما قبل الفجر، ودهمة الشرطة ما قبل الفجر.
حتى إذا تفتحت أكمام الفجر شمروا عن أكمامهم وتفتحوا على الحياة تفتح الياسمين. فتذكرت حالنا قبل عشرين عامًا، وكيف كان معلمي يعقوب يخيرني أن تضيع الطنطورية عليّ، كما ضاعت من قبل (يعاد)، أو أن أهب مع الفجر، فأنطلق إلى هؤلاء، الواقعين في براثن المقاول، فأنقذهم من براثن الشيوعيين (كما أنقذت عجائز النصارى لحية الخوري من المعط وهو قائم فوق المحراب يصلّي
فآمنت، يا محترم، بأن الأمر مكتوب علينا، فلا بد مما ليس منه بد. أو كما جاء في الأغنية الإيطالية التي ترجمتها شعرًا:
مشيناها خُطًي كتبت علينا ومن كتبت عليه خُطًي مشاها!
أما أهل القرية، جسر الزرقاء، وهم أخوال صاحبتي الطنطورية، فلم يمشوا أية خطوة، ولم يخرجوا أبدًا من قريتهم المنسية. وهذا سر بقائهم فيها. فلم تدر مذراة الرحيل الأول بوجودهم. فظلوا يصطادون صغار السمك في مصب النهر، آمنين، سوى الطنطورية.

*من قصيدة لأبي نواس.
*لعلي بن أبي طالب: "ما متع غني إلا بما جاع به فقير".
*الإشارة إلى ما انتشر من يقين في غزة وفي بقية أنحاء المناطق المحتلة، في أواخر أيلول عام 1972، عن تحرك الشواهد فوق قبور الشبان الأربعة، في مقبرة حي الشجاعية في غزة، مصطفى عبد القادر وحسين سليمان وعون سعيد ونوفل شمالي، الذين صرعهم رصاص الاحتلال.
*الإشارة إلى الحرمان الذي فرضه الفاتيكان، في أوائل الخمسينات، على الشيوعيين، فانتشرت شائعة في حيفا أن الشيوعيين قرروا معط لحية الخوري ولذلك حرمتهم الكنيسة
.

ليست هناك تعليقات: