الأحد، 11 مايو 2008

كيف اضطر سعيد إلى الإمساك عن الكتابة لأسباب أمنية-الكتاب الثاني: باقية

بـــــــــــــاقــــــــــــيـــــــــــــة
كما تحب الأم
طفلها المشوها
أحبها
حبيبتي بلادي
سالم جبران
صدرت في أواخر 1972
كتب إليّ سعيد أبو النحس المتشائل، قال: سلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأمسكت عن الكتابة إليك زمنًا شحيحًا لأسباب أمنية، أمني، هذه المرة. لا أمن الدولة، وأمن إخوتي الفضائيين الذين أقيم في كنفهم، في دياميس عكا، آمنًا غير مطمئن.
فلما جعلت حكومتكم ترمم الدياميس وتقيم جدرانها، وتضيئها بالكهرباء، وتكشف عن باحاتها، وعن زخارفها، وتزخرفها، جعلنا ننسحب إلى الدياميس غير المنظورة. لا نتوقف في مكان واحد، ولا نخلو إلى أنفسنا لحظة واحدة، كقولك: اضرب واهرب، كل واهرب، اكتب واهرب، وهذا غير متيسر.
حتى أدبر الصيف، وخفت الرجل، وانقطع اللغط سوى من دعاء ضفدع ومن نجوى صرصار.
فدعاني أخي الفضائي فقال: هلم نخرج إلى البحر.
فخرجنا. فاقتعدنا صخرة بعلبكية ملساء، على هودج في السور إلى يسار المنارة. وأرسلنا خيوطنا نصطاد سمكًا.
وكنا في شهر أكتوبر. والنسمة شرقية دافئة. والبحر رائق المزاج تتناثر أضواء النجوم على صفحته الهادئة. ونظرنا أمامنا فإذا حيفا المتوهجة أصبحت حيفاءين: حيفا المتكئة على مسند الكرمل، وحيفا المستحمة في البحر، متجردة من أقراطها وعقودها وخواتمها.
فأرى إلى البحر الجبار، وقد هدأ، كيف يبدو أشد جبروتًا. فالجبار المطمئن أشد جبروتًا. والبحر الهادئ هو الجبار المطمئن.
وكم من روح مضطربة، مثل روحي، التجأت إلى البحر تستمد منه هذا الاطمئنان.
فلما تكاثرت ليالي حزيران على العرب، تكاثر صيادو السمك الهواة منهم. فقيل: يهربون من هموم أزواجهم.
وكانوا، بالحق، يبحثون في البحر عما يقنعهم بأن ثمة ما هو أقوى من دولتنا.
ورب ليلة دهمتهم الشرطة فيها، وهم قيام على صخور الشاطئ في نهاريا، حيث يبلغ البحر بالوعاتها، فيخصب بأشتات السمك، وقد استخفهم اطمئنان البحر، فاستخفوا بأسئلة العسس، فباتوا بقية ليلتهم في سجن.
أما أنا فحملتني هذه الهواية سرًا عجيبًا أصبح هويتي. ولولا لجوئي إلى إخوتي الفضائيين، في دياميس عكا، حيث لا ينالني شركم، لحملته معي إلى القبر.
فأتذكر سري، وأقول: إن في هذه الجهات لسرًا عجيبًا! فيجيبني صاحبي الفضائي: سبقك إلى هذا القول ابن جبير الرحالة* . وكان قعد على هذا الشاطئ مترقبًا هدوء البحر ليفر من عكا، التي مومسها الروم. فكتب يقول:
(وفي مهب الريح، بهذه الجهات، سر عجيب. وذلك أن الريح الشرقية لا تهب فيها إلاّ في فصلي الربيع والخريف. والسفر لا يكون إلاّ فيهما. والتجار لا ينزلون إلى عكّا بالبضائع إلاّ في هذين الفصلين.. والسفر في الفصل الربيعي من نصف أبريل. وفيه تتحرك الريح الشرقية وتطول مدتها إلى آخر شهر مايه، وأكثر وأقل بحسب ما يقضي الله تعالي به. والسفر في الفصل الخريفي من نصف أكتوبر. وفيه تتحرك الريح الشرقية. ومدتها أقصر من المدة الربيعية. وإنما هي عندهم خلسة من الزمان قد تكون خمسة عشر يومًا وأكثر وأقل. وما سوى ذلك من الزمان فالرياح فيه تختلف. والريح الغربية أكثرها دوامًا. فالمسافرون إلى المغرب وإلى صقيلية وإلى بلاد الروم ينتظرون هذه الريح الشرقية في هذين الفصلين انتظار وعد صادق. فسبحان المبدع في حكمته، المعجز في قدرته، لا إله سواه).
فأسبح بحمده. وأذكر أنه في هذه الخلسة من الزمان، من كل عام، يخرج صيادو عكا العرب إلى عرض البحر بمراكبهم الصغيرة ليصطادوا سمك البلاميدا الكبير، جرا. وهو سمكُ أجنبي لا تحسن العربيات طهوه.

فيقول صاحبي: هذا البحر يهدأ في الربيع وفي الخريف. وهما أحسن الفصول في بلادكم الحسناء حتى تكاثر العشاق عليها، طبقات طبقات، فلم يبق من العلوم ما يصلح لدراسة تاريخها سوى الأرخيولوجيا في استقراء آثارها الدارسة.
فأقول: في الربيع التقيت الطنطورية. وفي الخريف ضيعت ابنها. وحياتي بينهما خلسة من الزمان.
*زار عكا في عام 1158

ليست هناك تعليقات: