الأحد، 11 مايو 2008

20-الجرح المفتوح

وبقيت عشرين عامًا أنتظر عودتها. فقد أخذوها مع غيرها من المتسللين إلى حيفا، من الناصرة ومن المجيدل ومن يافة ومن معلول ومن شفا عمرو ومن عبلين ومن طمرة، وكل عامل تسلل إلى حيفا ليطعم عياله، وألقوا بها في سهل جنين بين ألغام الإنجليز والعرب واليهود.
وبعضهم اختبأ بين الخرائب، وبين الأعواد، ولم يصل إلى الخطوط الأردنية. بل انتظر حتى أعتمت ونام النهار، فعاد أدراجه. فعادوا وطردوه. فعاد. فعادوا وطردوه. فعاد، حتى يومنا هذا.
وبعضهم ظل يمشي حتى تلقاه العسكر الأردني بالشتائم. فظل يُشتم حتى يومنا هذا.
وكانت (يعاد) بين الذين لم يعودوا. وواحد من المتسللين العائدين وضع في يدي، خلسة، ورقة. فإذا هي رسالة منها لم أقرأها إلا بعد أن وثقت من خلو المكان من الجهاز. وهي الورقة السرية الوحيدة التي احتفظت بها طول هذه الأعوام العشرين لكي أقنع نفسي بأنني قادر على تحدي الجهاز، ولأنني اعتبرتها عقد زواج.
كتبت (يعاد):
أرجو ممن يجد هذه الرسالة أن يوصلها إلى زوجي سعيد أبي النحس المتشائل، وادي النسناس - حيفا
سعيد، يا زوجي!
الوداع يا حبيبي. إنني أنتظر الموت عبر الحدود. ولكنني أموت وأنا مطمئنة على أنك ستنقذ والدي من السجن. سلم على أختي، واعتن بأولادها. الوداع، الوداع يا حبيبي.
زوجتك (يعاد)
وعلمت أنها لم تمت. فقررت أن لي زوجة في جنين، أو في مخيم لاجئين. فأخذت أهتم بجمع الشمل.
وكنت حريصًا على الاستماع إلى رسائل المغتربين إلى ذويهم من إذاعة عمان. ولكنني لم أقو، أبدًا، على توجيه تحية إليها في برنامج ‏ (سلام وتحية) الإسرائيلي وكان يستهل بأغنية فريد الأطرش: (أحبابنا يا عين، ما هم معانا. رحنا وراحوا عنا، ما حدش منا استنى. عيني يا عيني). فأمسح الدموع عن عيني في غفلة الجهاز، حتى لم تبق إذاعة عربية إلاّ أذاعت مثل هذا البرنامج. هذه تبدؤه (راجعون، راجعون)، وتلك: (وسلامي لكم، يا أهل الأرض المحتلة، يا منزرعين بمنازلكم، قلبي معكم وسلامي لكم) وأخرى: (يا مرسال المراسيل عالدرب القريبة. خذ لي بدربك هالمنديل واعطيه لحبيبي)، حتى اختلط الحابل بالنابل، فضاعت (يعاد) كليًا.
فلما وقعت حرب الأيام الستة، وصار مرسال المراسيل يهتف: (نصر من الله وفتح قريب)، لم أعد أبكي على (يعاد) بل على حالي، وبدون أي خوف من الجهاز لأن الجميع تجهز.
ذلك أن يعقوب رثي لحالي. فلحقني إلى الساحة التي حشرونا فيها، في الزاوية بين شارع الجبل وشارع العباس، فأخرجني قبل أن يبدأ الفرز، وقبل أن ألتقي رأس الخيش. ولما حكيت له ما جرى لي مع (يعاد)، لامني على أنني لم أخبر العسكر بالحقيقة من اللحظة الأولي. ووعدني أن يتدبر الأمر مع أولي الأمر وأن يجدوا (يعاد) (حتى ولو كانت في قطر)، وأن يعيدوها إلىّ.
- بشرط واحد يا سعيد. وهو أن تكون ولدًا طيبًا.
- حاضر.
- وأن تخدمنا بأمانة.
- حاضر.
وكل ذلك حرصًا على مستقبل (يعاد) المسكينة، التي وعد أن يعيدها إليّ.
وقال: بالطبع، سيطول الأمر بعض الوقت.
ولكنه طال طول الوقت.
وفي كل انتخابات جرت في هذه البلاد كان يقنعني بأنه، حال الانتهاء من فرز الأصوات، سيأخذني إلى بوابة مندلباوم لاستقبال (يعاد).
- فهات همتك!
فكنت لا أنام ولا أهدأ وأنا ألاحق الشيوعيين، وأحرض عليهم، وأنظم الاعتداء علىهم، وأشهد ضدهم، وأندس في صفوف تظاهراتهم، فأقلب صناديق القمامة في طريق التظاهرة، وأهتف بسقوط الدولة، لتبرير اعتداء الشرطة عليهم، وأوسوس في آذان الشيوخ أنهم مزقوا القرآن الكريم في الأعظمية، وأجلس على صندوق الاقتراع من السادسة صباحًا حتى منتصف الليل، ولا أنال أجرًا على هذه المهمة سوى إحياء الوعد بعودة (يعاد).
أما بقية زملائي، في المهمة، فكانوا يترقون في المناصب المخصصة لنا. فالشلفاوي صار عضو كنيست. ونظمي الشاويش أصبح شاويشًا. وعبد الفتاح داهن زقمه صار مدير مدرسة، وزوجه مديرة مدرسة، وابنته معلمة، مع أن ابنه وقع في أيدي الشيوعيين فبعثوه يتعلم الطب في موسكو.
ما بقي بدون أجر غيري وغير يعقوب، الذي أصبحت أنا أجره. فلما دمجوا اتحاد عمال فلسطين في الهستدروت عينوه موظفًا في الدائرة العربية، وأنا تحت يده.
ولم تنقذني الهمة التي أبديتها في الخدمة من غضب يعقوب، الذي لم تنقذه من غضب الرجل الكبير، ذي القامة القصيرة، وهو الذي يضع على عينيه نظارة سوداء في الغرفة المعتمة المسدلة الستائر. فما أن تظهر نتيجة انتخابات حتى يستصحبني هائجًا مائجًا.
- راحت (يعاد) عليك. كيف سمحت للشيوعيين بأن ينالوا كل هذه الأصوات?
- أنا?
- يا ألله! خيرها بغيرها.
وعلى الرغم من كل أفعالي ظللت أشعر براحة الضمير، أنني أنشد التقاء (يعاد)، حتى تزوجت فصار السر الذي بيني وبين يعقوب، أن نعيد (يعاد)، يؤرقني كما لو أنه الخيانة الزوجية.
فأخذ يعقوب يضغط بكل ثقله على هذا الجرح.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

مجهود جبار

يسلمو دياتك اللي كتبوا
ورحمة الله على اميل حبيبي