الأحد، 25 مايو 2008

6-باقية - التي أشركته في سرّها قبل أن تصبح شريكة حياته

ففيما أنا عائد، في إحدى الأماسي، وقد أقفر المكان. اتكأت على هذه الصخرة، فرأيت اسمي محفورًا على كتفها. فأدركت أن هذه الصبية أشجع من هذا الصبي، وأنها استدرجت أقرانها، الذين كنت أوزع صنارات الصيد عليهم درءًا لشرهم، حتى أخبروها باسمي.

فعلمت أنها تحبني. فأحببتها. وقديمًا علمت بأنني واقع لا محالة، في حب التي تحبني. وليتني أدركت منذ تلك اللحظة، أن شجاعتها غير مألوفة. ولكنني كنت غريقًا على كتف الصخرة الجيرية.

فأغدقت الصنارات وخيوط النايلون على صبي كان يلبي طلبي فينزل إلى البحر يفك صنارتي من صخرة علقت بها. فسألته:

ما أمر هذه الصبية فلا تشارككم صيدكم ولهوكم?
قال: (الطنطورية)?
ثم حدثني بما يعرفه عنها. فإذا هم لا يعرفون لها اسمًا سوى الطنطورية، لأنها من الطنطورة. وقال: إنها كانت في زيارة أخوالها في جسر الزرقاء حين سقطت الطنطورة ورحل أهلها. فبقيت في جسر الزرقاء.

وقال: هي مدنية، وتتكبر علينا.
وقال: أمرها عجيب. فهي إما أنها تبتسم وإما أنها تبكي. فأصبحنا نخافها، ونتحاشاها. غريبة وتقرأ كتبًا وتبتسم لوحدها وتبكي لوحدها.
فلما طلبت منه أن يسأل عن اسمها وعن أخوالها وأن يعود، في الأسبوع القادم، فيخبرني، عاد مع أقرانه وأخذوا يرجمونني بالحجارة. ولم تعد الطنطورية تتكئ على صخرتها. ولم أعد أجرؤ على زيارة ذلك الشاطئ.
فاحتبست في غرفتي، في اتحاد عمال فلسطين، مهمومًا: هل ستضيع الطنطورية عليّ كما ضاعت (يعاد)?..
فإذا بمعلمي يعقوب يهرول ويصرخ: ما كنت تفعل في جسر الزرقاء?
قلت: أتبع هوايتي بصيد السمك.
قال: فما يعنيك من بنات البلد?
قلت: لم أكن أعرف أنها شيوعية!
فانفجر يعقوب بالضحك، فانفجرت معه بالضحك.
وقال إنه يضحك من سذاجتي. فلا خطر من ظهور أي شيوعي في هذه القرية ما دام أهلها معزولين بالرمل وبعتمة الليل وبخيوط العنكبوت.
- خيوط العنكبوت?
- إنهم حمولة واحدة، تنتشر فيهم أواصر القربى انتشار خيوط العنكبوت.
- والطنطورية?
فأخبرني بما كنت أعرفه عن أصلها. وأضاف إلى ذلك أن أخوالها (من جماعتنا) مع أن اسمها الحقيقي هو (باقية). وقال: هذا هو الضد وضده.. ولكنها طفلة.
ووعدني بأن يدبر لي أمرها إذا استيقظت قبل الفجر وقمت إلى عمال القرى، الذين يبيتون في خرائب حيفا، فأيقظتهم، قبل الفجر، على خطر الشيوعيين. فوعدته خيرًا. وأخذت أبيت معهم، فيتركونني أغط بالنوم ويسعون في طلب الرزق.
حتى وقعت انتخابات الكنيست الثانية، في تموز عام 1951، فإذا بالشيوعيين ينالون ستة عشر صوتًا في جسر الزرقاء. فأقبل علي يعقوب، هاشا باشا، وهو يهتف: البشارة، البشارة. لقد قرر الرجل الكبير (ذو القامة القصيرة) أن يصوبك نحو جسر الزرقاء، فتستأصل شأفة هذه الأصوات النشاز.
كيف?
- بأن نزف إليك (باقية).
وما انقضى شهر تموز حتى زفت إليّ (باقية). فلما خلونا إلى بعضنا، وهمست في أذنها: يا شريكة حياتي.
قالت: أشركك، أولاً، بسري الدفين.

ليست هناك تعليقات: