(6)
كيف شارك سعيد في حرب الاستقلال لأول مرة
ولنعد، يا محترم، إلى مقر الحاكم العسكري الذي، ما أن شتم الأدون سفسارشك حتى نزلت عن الحمار. فسرعان ما تبين لي أن الشتم لا يدل على استهانة الشاتم بالمشتوم، بل يدل، أحيانًا، على الغيرة.
فما أن قعدت على المقعد راضيًا عن أن قامتى أطول من قامة الحاكم العسكري، حتى بدون قوائم الدابة، حتى هرع هذا الأخير، أي الحاكم العسكري، إلى التلفون ورطن فيه ببعض كلام لم أفهم منه سوى اسمين ارتبطا بي فيما بعد زمنًا طويلاً: أبي النحس وسفسارشك. ثم ألقاه، وصاح في وجهي أن قم. فقمت.
قال: أنا أبو إسحق، فاتبعني. فتبعته إلى سيارة جيب أوقفوها بقرب العتبة وحماري يتمخط إلى جانبها. قال: لنركب. فاعتلى سيارته واعتليت جحشي. فزعق، فانتفضنا، فوقعت عن ظهر الحمار، فوجدتني بقربه، أي بقرب الحاكم العسكري في السيارة التي توجهت بنا غربًا في طريق ترابي بين أعواد السمسم. قلت: إلى أين? قال: عكا، وانكتم. فانكتمت.
وما أن مرت بضع دقائق حتى أوقف الجيب فجأة، وانطلق منه كالسهم، وقد أشرع مسدسه. ثم اخترق أعواد السمسم وكشفها ببطنه، فإذا بامرأة قروية مقرفصة ووليدها في حجرها وقد رأرأت عيناه.
فصاح: من أية قرية?
فظلت الأم مقرفصة تطل عليه بنظرات شاخصة مع أنه كان واقفًا فوقها كالطود.
فصاح: من البروة?
فلم تجبه بعينيها الشاخصتين.
فصوب مسدسه نحو صدغ الولد، وصاح: أجيبي أو أفرغه فيه.
فانكمشت تأهبًا للانقضاض عليه، وليكن ما يكون. ففي عروقي تجري دماء الشباب الحارة، أنا ابن الرابعة والعشرين، وحتى الصخر لا يطيق هذا المنظر. غير أني تذكرت وصية أبي وبركة والدتي. فقلت في نفسي: سأثور عليه إذا ما أطلق الرصاص. ولكنه يهددها فحسب. فبقيت منكمشًا.
وأما المرأة، فقد أجابته هذه المرة: نعم من البروة.
فصرخ: أعائدة أنت إليها?
فأجابته: نعم عائدة.
فصرخ: ألم أنذركم أن من يعود إلىها يقتل? ألا تفهمون النظام? أتحسبونها فوضى? قومي اجري أمامي عائدة إلى أي مكان شرقًا. وإذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب، فلن أوفرك.
فقامت المرأة، وقبضت على يد ولدها وتوجهت شرقًا دون أن تلتفت وراءها. وسار ولدها معها دون أن يلتفت وراءه.
وهنا لاحظت أولى الظواهر الخارقة التي توالت علي فيما بعد حتى التقيت، أخيرًا، صحبي الفضائيين. فكلما ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض وأنا في الجيب، ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا. فظل الحاكم واقفًا ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعدًا أنكمش، حتى تساءل مذهولاً: متى يغيبان?
إلا أن هذا السؤال لم يكن موجهًا إلىّ.
والبروة هذه هي قرية الشاعر* الذي قال، بعد 15 سنة:
((أهنئ الجلاد منتصرًا على عين كحيلة
مرحى لفاتح قرية، مرحى لسفاح الطفولة) )
فهل كان هو الولد? وهل ظل يمشي شرقًا بعد أن فك يده من قبضة أمه وتركها في الظل?
لماذا أروي لك، يا معلم، هذه الحادثة التافهة?
لعدة أسباب منها: ظاهرة نمو الأجسام كلما ابتعدت عن أنظارنا.
ومنها أنها برهان آخر على أن اسم عائلتنا العريقة هو اسم له هيبته في قلوب رجالات الدولة. فلولا هذه الهيبة لأفرغ الحاكم مسدسه في رأسي، وقد شاهدني منكمشًا تأهبًا.
ومنها: أني شعرت، لأول مرة، أنني أكمل رسالة والدي، رحمه الله، وأخدم الدولة، بعد قيامها على الأقل. فلماذا لا أتبحبح مع الحاكم العسكري?
وتبحبحت، فسألته: سيارتك هذه، من أي موديل?
فقال: انكتم.
فانكتمت.
فشاعر البروة، السالف الذكر، قال:
(نحن أدرى بالشياطين التي
تجعل من طفل نبيا)
ولم يدر، إلاّ أخيرًا، بأن هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيًا منسيًّا.
*محمود درويش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق