السبت، 21 أبريل 2007

(6)

كيف شارك سعيد في حرب الاستقلال لأول مرة

ولنعد، يا محترم، إلى مقر الحاكم العسكري الذي، ما أن شتم الأدون سفسارشك حتى نزلت عن الحمار. ‏فسرعان ما تبين لي أن الشتم لا يدل على استهانة الشاتم بالمشتوم، بل يدل، أحيانًا، على الغيرة. ‏
فما أن قعدت على المقعد راضيًا عن أن قامتى أطول من قامة الحاكم العسكري، حتى بدون قوائم الدابة، حتى ‏هرع هذا الأخير، أي الحاكم العسكري، إلى التلفون ورطن فيه ببعض كلام لم أفهم منه سوى اسمين ارتبطا بي ‏فيما بعد زمنًا طويلاً: أبي النحس وسفسارشك. ثم ألقاه، وصاح في وجهي أن قم. فقمت. ‏
قال: أنا أبو إسحق، فاتبعني. فتبعته إلى سيارة جيب أوقفوها بقرب العتبة وحماري يتمخط إلى جانبها. قال: ‏لنركب. فاعتلى سيارته واعتليت جحشي. فزعق، فانتفضنا، فوقعت عن ظهر الحمار، فوجدتني بقربه، أي ‏بقرب الحاكم العسكري في السيارة التي توجهت بنا غربًا في طريق ترابي بين أعواد السمسم. قلت: إلى أين? ‏قال: عكا، وانكتم. فانكتمت. ‏
وما أن مرت بضع دقائق حتى أوقف الجيب فجأة، وانطلق منه كالسهم، وقد أشرع مسدسه. ثم اخترق أعواد ‏السمسم وكشفها ببطنه، فإذا بامرأة قروية مقرفصة ووليدها في حجرها وقد رأرأت عيناه. ‏
فصاح: من أية قرية? ‏
فظلت الأم مقرفصة تطل عليه بنظرات شاخصة مع أنه كان واقفًا فوقها كالطود. ‏
فصاح: من البروة? ‏
فلم تجبه بعينيها الشاخصتين. ‏
فصوب مسدسه نحو صدغ الولد، وصاح: أجيبي أو أفرغه فيه. ‏

فانكمشت تأهبًا للانقضاض عليه، وليكن ما يكون. ففي عروقي تجري دماء الشباب الحارة، أنا ابن الرابعة ‏والعشرين، وحتى الصخر لا يطيق هذا المنظر. غير أني تذكرت وصية أبي وبركة والدتي. فقلت في نفسي: سأثور ‏عليه إذا ما أطلق الرصاص. ولكنه يهددها فحسب. فبقيت منكمشًا. ‏
وأما المرأة، فقد أجابته هذه المرة: نعم من البروة. ‏
فصرخ: أعائدة أنت إليها? ‏
فأجابته: نعم عائدة. ‏
فصرخ: ألم أنذركم أن من يعود إلىها يقتل? ألا تفهمون النظام? أتحسبونها فوضى? قومي اجري أمامي عائدة ‏إلى أي مكان شرقًا. وإذا رأيتك مرة ثانية على هذا الدرب، فلن أوفرك. ‏
فقامت المرأة، وقبضت على يد ولدها وتوجهت شرقًا دون أن تلتفت وراءها. وسار ولدها معها دون أن يلتفت ‏وراءه. ‏
وهنا لاحظت أولى الظواهر الخارقة التي توالت علي فيما بعد حتى التقيت، أخيرًا، صحبي الفضائيين. فكلما ‏ابتعدت المرأة وولدها عن مكاننا، الحاكم على الأرض وأنا في الجيب، ازدادا طولاً حتى اختلطا بظليهما في ‏الشمس الغاربة، فصارا أطول من سهل عكا. فظل الحاكم واقفًا ينتظر اختفاءهما، وظللت أنا قاعدًا أنكمش، ‏حتى تساءل مذهولاً: متى يغيبان? ‏
إلا أن هذا السؤال لم يكن موجهًا إلىّ. ‏
والبروة هذه هي قرية الشاعر* الذي قال، بعد 15 سنة: ‏
‏((أهنئ الجلاد منتصرًا على عين كحيلة
‏ مرحى لفاتح قرية، مرحى لسفاح الطفولة) )‏
فهل كان هو الولد? وهل ظل يمشي شرقًا بعد أن فك يده من قبضة أمه وتركها في الظل? ‏
لماذا أروي لك، يا معلم، هذه الحادثة التافهة? ‏
لعدة أسباب منها: ظاهرة نمو الأجسام كلما ابتعدت عن أنظارنا. ‏
ومنها أنها برهان آخر على أن اسم عائلتنا العريقة هو اسم له هيبته في قلوب رجالات الدولة. فلولا هذه الهيبة ‏لأفرغ الحاكم مسدسه في رأسي، وقد شاهدني منكمشًا تأهبًا. ‏
ومنها: أني شعرت، لأول مرة، أنني أكمل رسالة والدي، رحمه الله، وأخدم الدولة، بعد قيامها على الأقل. ‏فلماذا لا أتبحبح مع الحاكم العسكري? ‏
وتبحبحت، فسألته: سيارتك هذه، من أي موديل? ‏
فقال: انكتم. ‏
فانكتمت. ‏
فشاعر البروة، السالف الذكر، قال: ‏
‏(نحن أدرى بالشياطين التي
‏ تجعل من طفل نبيا) ‏
ولم يدر، إلاّ أخيرًا، بأن هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيًا منسيًّا.
*محمود درويش‏

ليست هناك تعليقات: