الأربعاء، 25 أبريل 2007

(9)

الإشارة الأولي من الفضاء السحيق

فلما انفض السامر، وبقيت وحدي مع معلمي، الذي أنقذني من غضب الأشباح، شعرت بالامتنان، وبرغبتي في ‏التعبير عنه. كان معلمي هذا، كما تذكر يا محترم، هو السبب في انقطاع صلتي بـ (يعاد)، ذات العينين ‏الخضراوين. ولكن قلبي كبير. فقلت له: إنني مسرور بأن أبيت في كنفه ليلتي الأولي في هذه الدولة الجديدة. ‏فهو، بعد الأدون سفسارشك، وصية أبي. فماذا تفعل هنا يا معلمي? ‏
قال: أجمع الشمل. ‏
ثم قال: والحقيقة، يا ولدي أنهم ليسوا أسوأ من غيرهم في التاريخ. ‏
فهززت رأسي استحسانًا. ‏
فقال: حقًا إنهم هدموا القرى التي ذكرها القوم، وشردوا أهلها. ولكن، يا ولدي، إن في قلوبهم لرأفة لم يحظ بها ‏أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم. ‏
خذ لك عكا هذه مثلاً. فحين افتتحها الصليبيون في سنة 1104، بعد حصار دام ثلاثة أسابيع، ذبحوا أهلها ‏ونهبوا أموالهم. ‏
وبقيت في أيديهم 83 عامًا حتى حررها صلاح الدين بعد وقعة حطين التي علمتكم عنها في المدرسة. ‏
ثم عاد الصليبيون فحاصروا عكا مدة سنتين كاملتين، من آب 1189 حتى تموز 1191، فأكره الجوع أهلها ‏على الاستسلام بشروط قاسية. فلما لم يستطيعوا إيفاءها أمر ملكهم ريتشارد ليون هارت (يعني قلب الأسد) ‏بذبح 2600 رأس من رؤوس الرهائن الآدمية. وظلت عكا في أيديهم قرنًا كاملاً، مئة عام من الزمن يا بني، ‏حتى حررها القائد المملوكي قلاوون، سنة .1291 وكان لقبه العسكري هو (الألفي)، تقديرًا للثمن الباهظ ‏الذي دفع فيه، وهو ألف دينار. ‏
فأردت أن أثبت له أنني لا أزال من طلابه النجباء، فسألته: ‏
‏- فهل رتبة (الألوف) من جنرالاتهم الآن، يا معلمي، منحوتة من هذا المعني? ‏
‏- حاشاوكلا يا بني. بل تعود إلى قائد الألف في التوراة. هؤلاء ليسوا مماليك، وليسوا صليبيين، بل عائدون إلى ‏وطنهم بعد غيبة ألفي سنة. ‏
‏- ما أقوى ذاكرتهم! ‏
‏- على كل حال، يا بني، ظل الحديث يجري، منذ ألفي سنة، على الألوف، قادة ألفيون، أو ألوفيون، وقتلى ‏بالألوف. ليس هناك على الأرض أقدس من دم الإنسان، يا بني، ولذلك سميت بلادنا بالمقدسة. ‏
‏- ومدينتي حيفا، أيضًا، مقدسة? ‏
‏- كل مكان في بلادنا قد تقدس بدماء المذبوحين، ويظل يتقدس يا بني. ومدينتك حيفا لا تختلف عن بقية مدننا ‏المقدسة. فبعد أن اكتسح الصليبيون مدينة القدس المقدسة، عليها السلام، في سنة 1099، وكتب ملكهم ‏جوتفريد في رسالته إلى البابا متباهيًا بأن (أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل كانت ترى في ساحات المدينة ‏وطرقاتها)، وبأنه في مسجد عمر، رضي الله عنه، حيث التجأ المسلمون (وصلت الدماء إلى ركب الخيل)، ذهبوا ‏وافتتحوا حيفا بعد أن حاصرها أسطول البندقية شهرًا. فذبحوا أهليها عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساء وأولادًا. ‏
فحيفا ليست مدينة جديدة يا بني، إلاّ أنه بعد كل مذبحة، لم يبق فيها من يخبر الذرية بأصلها. ‏
‏- فلماذا لم تعلمونا عن هذه القدسية يا معلمي? ‏
‏- من حق الإنجليز أن يتباهوا بتاريخهم، يا ولدي. وخصوصًا بملكهم العظيم ليون هارت. وبدون أن نعلمكم ‏هذه الأمور شاركوا هم أيضًا، بدمائنا، في عملية تقديس بلادنا. والتاريخ يا بني، لا يصح في عيون الغزاة إلا ‏بتزوير التاريخ. ‏
‏- فهل سيسمحون لنا، يا معلمي، بدراسة هذا التاريخ بعد أن جلا الغزاة ونالت البلاد استقلالها? ‏
‏- انتظر فتر. ‏
‏- وهل يدخلون جامع الجزار كما دخل الصليبيون مسجد عمر? ‏

‏- حاشاوكلا يا بني، بل يقرعون الباب فنخرج نحن إليهم إنهم لا يدنسون حرمة دور العبادة، بل إن لهم في ‏خارجها، متسعًا لهذا الأمر. ‏
وما أن أكمل معلمي كلامه المطمئن هذا، حتى سمعنا قرعًا شديدًا على الباب. فقال معلمي: لقد جاءوا. ‏
فقلت: ربما جاء الأدون سفسارشك من حيفا ليستفسر عن حالي. ‏
ولكن معلمي كان قد بلغ الباب. وكانت الأشباح قد استيقظت، وأخذت تحوم في فناء الجامع على غير هدى. ‏
وحبسنا أنفاسنا ونحن نستمع إلى الأمر بأن الجيش قرر أن يعيد اللاجئين، الملتجئين في كنف المسجد، إلى قراهم ‏الأصلية حالاً. ‏
فهمس شبح إلى جانبي: فلماذا لا ينتظرون حتى الصباح? ‏
فأدهشني هذا السؤال، وقلت: خير البر عاجله. ‏
فصاح الآمر: سعيد أبو النحس يبقى وحده مع المعلم، وجميع الآخرين ليخرجوا! ‏
فتحققت كلام معلمي أنهم ليسوا أسوأ من الملك ليون هارت. ‏
وانسلت شكرية، التي ماتت ابنتها، من الباب الشرقي وهي تحمل طفلتها على يديها. وقبل أن تغيب في السوق ‏العتم سألتها: إلى أين? قالت: في الصباح ادفنها في عكا وأتوكل. ‏
وانسل آخرون من الباب الجنوبي ليضيعوا في أزقة عكا القديمة. فسألت: لماذا? فقالوا: ما عندنا أدون ‏سفسارشك، والذي هدم قرانا لا يعيدنا إليها. ‏
وأما الباقون فحملوا خرقهم، وأولادهم، وخرجوا من الباب الشمالي الكبير حيث حملوا في سيارات ضخمة ‏حملتهم، كما أخبرني معلمي فيما بعد، إلى الحدود، حيث ألقتهم شمالاً، وتوكلت. ‏
فعاد معلمي واتكأ حيث كنت متكئًا على المزولة وقد زاولني القلق. وقال: قم الآن ونم، لقد فرغت الليلة ‏جعبتي. ‏
ولكنني لم أنم. ‏
ففي تلك الليلة، في ساعة الفجر الكاذب، شاهدت الإشارة الأولى من الفضاء السحيق.‏

ليست هناك تعليقات: