(9)
الإشارة الأولي من الفضاء السحيق
فلما انفض السامر، وبقيت وحدي مع معلمي، الذي أنقذني من غضب الأشباح، شعرت بالامتنان، وبرغبتي في التعبير عنه. كان معلمي هذا، كما تذكر يا محترم، هو السبب في انقطاع صلتي بـ (يعاد)، ذات العينين الخضراوين. ولكن قلبي كبير. فقلت له: إنني مسرور بأن أبيت في كنفه ليلتي الأولي في هذه الدولة الجديدة. فهو، بعد الأدون سفسارشك، وصية أبي. فماذا تفعل هنا يا معلمي?
قال: أجمع الشمل.
ثم قال: والحقيقة، يا ولدي أنهم ليسوا أسوأ من غيرهم في التاريخ.
فهززت رأسي استحسانًا.
فقال: حقًا إنهم هدموا القرى التي ذكرها القوم، وشردوا أهلها. ولكن، يا ولدي، إن في قلوبهم لرأفة لم يحظ بها أجدادنا من الغزاة الذين سبقوهم.
خذ لك عكا هذه مثلاً. فحين افتتحها الصليبيون في سنة 1104، بعد حصار دام ثلاثة أسابيع، ذبحوا أهلها ونهبوا أموالهم.
وبقيت في أيديهم 83 عامًا حتى حررها صلاح الدين بعد وقعة حطين التي علمتكم عنها في المدرسة.
ثم عاد الصليبيون فحاصروا عكا مدة سنتين كاملتين، من آب 1189 حتى تموز 1191، فأكره الجوع أهلها على الاستسلام بشروط قاسية. فلما لم يستطيعوا إيفاءها أمر ملكهم ريتشارد ليون هارت (يعني قلب الأسد) بذبح 2600 رأس من رؤوس الرهائن الآدمية. وظلت عكا في أيديهم قرنًا كاملاً، مئة عام من الزمن يا بني، حتى حررها القائد المملوكي قلاوون، سنة .1291 وكان لقبه العسكري هو (الألفي)، تقديرًا للثمن الباهظ الذي دفع فيه، وهو ألف دينار.
فأردت أن أثبت له أنني لا أزال من طلابه النجباء، فسألته:
- فهل رتبة (الألوف) من جنرالاتهم الآن، يا معلمي، منحوتة من هذا المعني?
- حاشاوكلا يا بني. بل تعود إلى قائد الألف في التوراة. هؤلاء ليسوا مماليك، وليسوا صليبيين، بل عائدون إلى وطنهم بعد غيبة ألفي سنة.
- ما أقوى ذاكرتهم!
- على كل حال، يا بني، ظل الحديث يجري، منذ ألفي سنة، على الألوف، قادة ألفيون، أو ألوفيون، وقتلى بالألوف. ليس هناك على الأرض أقدس من دم الإنسان، يا بني، ولذلك سميت بلادنا بالمقدسة.
- ومدينتي حيفا، أيضًا، مقدسة?
- كل مكان في بلادنا قد تقدس بدماء المذبوحين، ويظل يتقدس يا بني. ومدينتك حيفا لا تختلف عن بقية مدننا المقدسة. فبعد أن اكتسح الصليبيون مدينة القدس المقدسة، عليها السلام، في سنة 1099، وكتب ملكهم جوتفريد في رسالته إلى البابا متباهيًا بأن (أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل كانت ترى في ساحات المدينة وطرقاتها)، وبأنه في مسجد عمر، رضي الله عنه، حيث التجأ المسلمون (وصلت الدماء إلى ركب الخيل)، ذهبوا وافتتحوا حيفا بعد أن حاصرها أسطول البندقية شهرًا. فذبحوا أهليها عن بكرة أبيهم، رجالاً ونساء وأولادًا.
فحيفا ليست مدينة جديدة يا بني، إلاّ أنه بعد كل مذبحة، لم يبق فيها من يخبر الذرية بأصلها.
- فلماذا لم تعلمونا عن هذه القدسية يا معلمي?
- من حق الإنجليز أن يتباهوا بتاريخهم، يا ولدي. وخصوصًا بملكهم العظيم ليون هارت. وبدون أن نعلمكم هذه الأمور شاركوا هم أيضًا، بدمائنا، في عملية تقديس بلادنا. والتاريخ يا بني، لا يصح في عيون الغزاة إلا بتزوير التاريخ.
- فهل سيسمحون لنا، يا معلمي، بدراسة هذا التاريخ بعد أن جلا الغزاة ونالت البلاد استقلالها?
- انتظر فتر.
- وهل يدخلون جامع الجزار كما دخل الصليبيون مسجد عمر?
- حاشاوكلا يا بني، بل يقرعون الباب فنخرج نحن إليهم إنهم لا يدنسون حرمة دور العبادة، بل إن لهم في خارجها، متسعًا لهذا الأمر.
وما أن أكمل معلمي كلامه المطمئن هذا، حتى سمعنا قرعًا شديدًا على الباب. فقال معلمي: لقد جاءوا.
فقلت: ربما جاء الأدون سفسارشك من حيفا ليستفسر عن حالي.
ولكن معلمي كان قد بلغ الباب. وكانت الأشباح قد استيقظت، وأخذت تحوم في فناء الجامع على غير هدى.
وحبسنا أنفاسنا ونحن نستمع إلى الأمر بأن الجيش قرر أن يعيد اللاجئين، الملتجئين في كنف المسجد، إلى قراهم الأصلية حالاً.
فهمس شبح إلى جانبي: فلماذا لا ينتظرون حتى الصباح?
فأدهشني هذا السؤال، وقلت: خير البر عاجله.
فصاح الآمر: سعيد أبو النحس يبقى وحده مع المعلم، وجميع الآخرين ليخرجوا!
فتحققت كلام معلمي أنهم ليسوا أسوأ من الملك ليون هارت.
وانسلت شكرية، التي ماتت ابنتها، من الباب الشرقي وهي تحمل طفلتها على يديها. وقبل أن تغيب في السوق العتم سألتها: إلى أين? قالت: في الصباح ادفنها في عكا وأتوكل.
وانسل آخرون من الباب الجنوبي ليضيعوا في أزقة عكا القديمة. فسألت: لماذا? فقالوا: ما عندنا أدون سفسارشك، والذي هدم قرانا لا يعيدنا إليها.
وأما الباقون فحملوا خرقهم، وأولادهم، وخرجوا من الباب الشمالي الكبير حيث حملوا في سيارات ضخمة حملتهم، كما أخبرني معلمي فيما بعد، إلى الحدود، حيث ألقتهم شمالاً، وتوكلت.
فعاد معلمي واتكأ حيث كنت متكئًا على المزولة وقد زاولني القلق. وقال: قم الآن ونم، لقد فرغت الليلة جعبتي.
ولكنني لم أنم.
ففي تلك الليلة، في ساعة الفجر الكاذب، شاهدت الإشارة الأولى من الفضاء السحيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق