الاثنين، 23 أبريل 2007

(7)

ورود ذِكْر (يُعاد) لأول مرة

استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسية. فتذكرت صاحبتي (يُعاد)، التي لم تبتسم في ‏القطار لسواي، فتسارع وجيب الفؤاد. ‏
فعكا، التي صمدت للصليبيين أطول مما صمد غيرها من الحواضر، وردت نابليون، ولم يدخلها التتار. حافظت ‏على هيبتها بعد أن هرمت وشاخت وأصبح سورها محششة، ومنارها مثل قنديل جحا.. فظلت القصبة حتى بعد ‏أن تصنعت حيفا واستشببت. وظلت مدرستها الثانوية، في الغرف الكلينية على كتف السور الشرقي، أعلى ‏صفوفًا من مدرسة حيفا الثانوية. فانتقلنا إلى (مدرسة الفرقة)* في عكا، ذهابًا وإيابًا يوميًا في القطار. وفي القطار ‏التقينا صاحبتي (يعاد) الحيفاوية التي كانت مثلنا تتأبط مزودتها، وتتعلم في مدرسة البنات العكية، وتعود معنا. ‏إلاّ أنها كانت تنزوي في المقصورة الوحيدة في القطار، تدخلها وقد أسدلت إيهابها، وتخرج منها على هذه الحال. ‏فسارقتني النظر بعينيها الخضراوين من باب المقصورة المشقوق، فعلقتها. فنادتني ذات صباح أن أفسر لها كلمة ‏بالإنجليزية. فلما عجزت عنها فسرتها لي، وقالت: اقعد. فصرت أقعد معها في الذهاب وفي العودة. فأحببتها حبًا ‏جمًا. فقالت إنها أحبتني لأنني خفيف الظل وضحكتي عالية. ‏
ولكن غيرة زميل من زملائي جعلتني أبكي بدون صوت. ‏
فقد وشى بي إلى مدير مدرستها، الذي أحال كتابه إلى مدير مدرستنا، فاستدعى جميع طلاب حيفا القطاريين. ‏وهاج وماج، ثم قال: حيفا عكا بحر، بينهما بحر. ما يجوز في حيفا لا يجوز في عكا. هذه مدينة محافظة منذ أيام ‏صلاح الدين. ‏
فتذكرت المغفور له الرحالة أبا الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الأندلسي، الشاطبي، البلنسي، الذي بات ‏ليلتين في خان عكاوي، في زمن صلاح الدين، فكتب عنها أنها (تستعر كفرًا وطغيانًا)، وأنها (مملوءة كلها رجسًا ‏وعذرة). وكان جدي لأبي، رحمهما الله، الذي (خطفت) امرأته الأولى، يعلمنا منذ الصغر قائلاً: فعلت ذلك ‏لأنها من عكاء. وكان يمطها توكيدًا. ‏
فتنطحت للمدير وصحت في وجهه همسًا: ولكنها ليست من عكاء! ‏
فطردنا من مكتبه، وكتب إلى أهلها. فأرسلوا من ضربني في المحطة. فازددت هيامًا بها. فضربت زميلي الذي ‏وشى بنا. فوقعنا من القطار على رمل الشاطئ فلم نتأذ. وعدنا إلى حيفا مشيًا على الأقدام بعد أن اغتسلنا في ‏البحر. وأطعمنا الغوارنة خبز صاج بالزيت وبالملح وسرقوا المزودتين.. فرجعنا أعز الصحاب حتى يومنا هذا. ‏
وأما (يعاد)، التي لم تعد إلى القطار منذ كتاب المدير إلى أهلها، فلم أعثر لها على أثر. ولكن قلبي ظل مجروحًا ‏بحبها. ‏
فلما دخلنا عمارة الشرطة، على الشاطئ الغربي، وسلمني الحاكم إلى أحد ضباطها، أمرني: عد في الصباح ‏لأنقلك إلى حيفا. ثم استدرك: فأين ستقضي ليلتك هنا? قلت: (يعاد)! فصاح الضابط: هل أنت أطرش? وأعاد ‏على مسامعي تعليماته. قلت: لا أعرف أحدًا هنا سوى مدير المدرسة، فلان الفلاني. ‏
فتشاورا، ثم قال الحاكم للضابط: احمله إلى جامع الجزار. فحملني بجيبه. حتى إذا وصلنا إلى سبيل الطاسات ‏أوقف سيارته فترجلنا وقرع باب المسجد بمطرقة الباب التاريخية. فسمعنا لغطا ثم انحبس.. ثم سمعنا بكاء طفل ثم ‏انكتم، فوقع أقدام تتجرجر. ثم انفتح الباب عن شيخ هرم، نحيل، في ثوب هدم، وهو يؤهل. فأمر الضابط: هذا ‏واحد آخر عليه أن يثبت وجوده في المركز صباحًا. فقال الشيخ: ادخل يا ابني. فدخلت. فلما أمعنت النظر في ‏وجهه عرفت فيه مدير المدرسة. فهتفت: آه يا معلمي، إن والدي رحمه الله، قد أوصاك بي خيرًا. فقال: إن ‏خيري كثير يا ولدي، ادخل فَتَره!!


‏*هي مدرسة عكا الثانوية قبل قيام الدولة، سميت بهذا الاسم لأنها كانت مركز الحامية التركية في عكا.‏

هناك تعليق واحد:

Unknown يقول...

شكراً على هذا المجهود العظيم
..من أنت ؟؟؟