(7)
ورود ذِكْر (يُعاد) لأول مرة
استقبلتنا عكا، حين دخلناها، وقد التفت بعباءة الليل العباسية. فتذكرت صاحبتي (يُعاد)، التي لم تبتسم في القطار لسواي، فتسارع وجيب الفؤاد.
فعكا، التي صمدت للصليبيين أطول مما صمد غيرها من الحواضر، وردت نابليون، ولم يدخلها التتار. حافظت على هيبتها بعد أن هرمت وشاخت وأصبح سورها محششة، ومنارها مثل قنديل جحا.. فظلت القصبة حتى بعد أن تصنعت حيفا واستشببت. وظلت مدرستها الثانوية، في الغرف الكلينية على كتف السور الشرقي، أعلى صفوفًا من مدرسة حيفا الثانوية. فانتقلنا إلى (مدرسة الفرقة)* في عكا، ذهابًا وإيابًا يوميًا في القطار. وفي القطار التقينا صاحبتي (يعاد) الحيفاوية التي كانت مثلنا تتأبط مزودتها، وتتعلم في مدرسة البنات العكية، وتعود معنا. إلاّ أنها كانت تنزوي في المقصورة الوحيدة في القطار، تدخلها وقد أسدلت إيهابها، وتخرج منها على هذه الحال. فسارقتني النظر بعينيها الخضراوين من باب المقصورة المشقوق، فعلقتها. فنادتني ذات صباح أن أفسر لها كلمة بالإنجليزية. فلما عجزت عنها فسرتها لي، وقالت: اقعد. فصرت أقعد معها في الذهاب وفي العودة. فأحببتها حبًا جمًا. فقالت إنها أحبتني لأنني خفيف الظل وضحكتي عالية.
ولكن غيرة زميل من زملائي جعلتني أبكي بدون صوت.
فقد وشى بي إلى مدير مدرستها، الذي أحال كتابه إلى مدير مدرستنا، فاستدعى جميع طلاب حيفا القطاريين. وهاج وماج، ثم قال: حيفا عكا بحر، بينهما بحر. ما يجوز في حيفا لا يجوز في عكا. هذه مدينة محافظة منذ أيام صلاح الدين.
فتذكرت المغفور له الرحالة أبا الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني، الأندلسي، الشاطبي، البلنسي، الذي بات ليلتين في خان عكاوي، في زمن صلاح الدين، فكتب عنها أنها (تستعر كفرًا وطغيانًا)، وأنها (مملوءة كلها رجسًا وعذرة). وكان جدي لأبي، رحمهما الله، الذي (خطفت) امرأته الأولى، يعلمنا منذ الصغر قائلاً: فعلت ذلك لأنها من عكاء. وكان يمطها توكيدًا.
فتنطحت للمدير وصحت في وجهه همسًا: ولكنها ليست من عكاء!
فطردنا من مكتبه، وكتب إلى أهلها. فأرسلوا من ضربني في المحطة. فازددت هيامًا بها. فضربت زميلي الذي وشى بنا. فوقعنا من القطار على رمل الشاطئ فلم نتأذ. وعدنا إلى حيفا مشيًا على الأقدام بعد أن اغتسلنا في البحر. وأطعمنا الغوارنة خبز صاج بالزيت وبالملح وسرقوا المزودتين.. فرجعنا أعز الصحاب حتى يومنا هذا.
وأما (يعاد)، التي لم تعد إلى القطار منذ كتاب المدير إلى أهلها، فلم أعثر لها على أثر. ولكن قلبي ظل مجروحًا بحبها.
فلما دخلنا عمارة الشرطة، على الشاطئ الغربي، وسلمني الحاكم إلى أحد ضباطها، أمرني: عد في الصباح لأنقلك إلى حيفا. ثم استدرك: فأين ستقضي ليلتك هنا? قلت: (يعاد)! فصاح الضابط: هل أنت أطرش? وأعاد على مسامعي تعليماته. قلت: لا أعرف أحدًا هنا سوى مدير المدرسة، فلان الفلاني.
فتشاورا، ثم قال الحاكم للضابط: احمله إلى جامع الجزار. فحملني بجيبه. حتى إذا وصلنا إلى سبيل الطاسات أوقف سيارته فترجلنا وقرع باب المسجد بمطرقة الباب التاريخية. فسمعنا لغطا ثم انحبس.. ثم سمعنا بكاء طفل ثم انكتم، فوقع أقدام تتجرجر. ثم انفتح الباب عن شيخ هرم، نحيل، في ثوب هدم، وهو يؤهل. فأمر الضابط: هذا واحد آخر عليه أن يثبت وجوده في المركز صباحًا. فقال الشيخ: ادخل يا ابني. فدخلت. فلما أمعنت النظر في وجهه عرفت فيه مدير المدرسة. فهتفت: آه يا معلمي، إن والدي رحمه الله، قد أوصاك بي خيرًا. فقال: إن خيري كثير يا ولدي، ادخل فَتَره!!
*هي مدرسة عكا الثانوية قبل قيام الدولة، سميت بهذا الاسم لأنها كانت مركز الحامية التركية في عكا.
هناك تعليق واحد:
شكراً على هذا المجهود العظيم
..من أنت ؟؟؟
إرسال تعليق