الثلاثاء، 24 أبريل 2007

(8)

جلسة ليلية عجيبة في فناء جامع الجزار

صفق معلمي براحتيه ثلاثًا، ثم قال مخاطبًا الظلام في فناء المسجد: عودوا إلى شؤونكم يا قوم، فهذا واحد منا. ‏
فإذا باللغط المحبوس ينفلت. وتنشال الأكف عن أفواه الأطفال المنكتمة. وأرى أشباحًا تتقدم نحونا من غرف ‏المدرسة الأحمدية التي تحيط بالفناء الرحب من أطرافه الثلاثة، الشرقي والشمالي والغربي، فتتحلقنا، وتقرفص بعد ‏أن تطرح السلام، فعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فتستفهم عني. ‏
قلت: إني عائد من لبنان. ‏
فإذا بهرج وبمرج. ‏
فصاح معلمي: هذا ولدنا يا جماعة. فإذا عاد، عاد الآخرون. ‏
فسأل سائل: هل عدت متسللاً? ‏
فلم أشأ أن أحدثهم عن الدكتور عشيق أختي، ولا عن الدابة، ولا عن الأدون سفسارشك، فقلت: نعم. ‏
‏- فسيطردونك الليلة. ‏
قلت: إن لوالدي، الذي أعطاكم عمره، صديقًا من كبارهم، اسمه الأدون سفسارشك. ‏
فعاد الصخب. وعاد معلمي يطمئنهم: إن هو إلاّ صبي لم يبلغ الحلم. مع أن الليلة هي ليلة ميلادي الرابع ‏والعشرين. وكنت في حلم حقًا. ‏
وشكرت معلمي على أنه لم يدَّع أنني صبيه كي ينقذني من غضبهم، الذي لم أدرك له سببًا. ‏
حتى أنسوا بي، فأمطروني بالأسئلة عن شظايا أهلهم الذين التجأوا إلى لبنان. ‏
‏- نحن من الكويكات، التي هدموها وشردوا أهلها، فهل التقيت أحدًا من الكويكات? ‏
فأعجبني ترديد الكاف في الكويكات. فعاجلت ضحكتي قبل أن تنطلق، لولا صوت امرأة جاء من وراء المزولة ‏غربًا: ‏
‏- البنت ليست نائمة يا شكرية، البنت ميتة يا شكرية. ‏
ثم تناهت إلىنا صرخة مخنوقة، فاختنقت أنفاس الجمع حتى انحبست الصرخة. فعادوا إلى استجوابي. فقلت: لا. ‏
‏- أنا من المنشية. لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور. فهل تعرف أحدًا من المنشية? ‏
‏- لا. ‏
‏- نحن هنا من عمقا، ولقد حرثوها، ودلقوا زيتها. فهل تعرف أحدًا من عمقا? ‏
‏- لا. ‏
‏- نحن هنا من البروة. لقد طردونا وهدموها، هل تعرف أحدًا من البروة? ‏
‏- أعرف امرأة كانت مختبئة مع طفلها بين أعواد السمسم. ‏
فسمعت أصواتًا كثيرة تحدس أيهن تكون هذه المرأة، فعدوا أكثر من عشرين أم فلان حتى صاح كهل من ‏بينهم: كفوا! إنها أم البروة، فحسبها وحسبنا. فكفوا. ‏
ثم عادت الأصوات تنتسب في عناد، مع أن قراها، كما فهمت، قد درستها العسكر: ‏
‏- نحن من الرويس. ‏
‏- نحن من الحدثة. ‏
‏- نحن من الدامون. ‏
‏- نحن من المزرعة. ‏
‏- نحن من شعب. ‏
‏- نحن من ميعار. ‏
‏- نحن من وعرة السريس. ‏
‏- نحن من الزيب. ‏
‏- نحن من البصة. ‏
‏- نحن من الكابري. ‏
‏- نحن من أقرت. ‏
ولا تنتظر مني يا محترم، بعد هذا الوقت الطويل أن أتذكر جميع القرى الدارسة، التي انتسبت إلىها الأشباح في ‏باحة جامع الجزار. هذا مع العلم بأننا نحن، أولاد حيفا، كنا نعرف عن قرى سكوتلندة أكثر مما كنا نعرف عن ‏قرى الجليل. فأكثر هذه القرى لم أسمع به إلاّ تلك الليلة. ‏
لا تلمني، يا محترم، بل لم أصحابك. ألم يكتب شاعركم الجليلي : ‏
‏(سأحفر رقم كل قسيمة ‏
من أرضنا سلبت ‏
وموقع قريتي، وحدودها ‏
وبيوت أهليها التي نسفت ‏
وأشجاري التي اقتلعت ‏
وكل زهيرة برية سحقت ‏
لكي أذكر ‏
سأبقى دائمًا أحفر ‏
جميع فصول مأساتي
وكل مراحل النكبة ‏
من الحبة ‏
إلى القبة ‏
فإلى متى يظل يحفر وتظل سنُو النسيان تعبر وتمحو? ومتى سيقرأ لنا المكتوب على الزيتونة? وهل بقيت زيتونة ‏في ساحة الدار? ‏
فلما لم يتلقوا مني أجوبة شافية، وأدركوا أنني لا أعرف من عباد الله سوى أهلي والأدون سفسارشك، انفضوا ‏من حولي وعادوا إلى زواياهم. فبقيت مع معلمي.‏

ليست هناك تعليقات: