(8)
جلسة ليلية عجيبة في فناء جامع الجزار
صفق معلمي براحتيه ثلاثًا، ثم قال مخاطبًا الظلام في فناء المسجد: عودوا إلى شؤونكم يا قوم، فهذا واحد منا.
فإذا باللغط المحبوس ينفلت. وتنشال الأكف عن أفواه الأطفال المنكتمة. وأرى أشباحًا تتقدم نحونا من غرف المدرسة الأحمدية التي تحيط بالفناء الرحب من أطرافه الثلاثة، الشرقي والشمالي والغربي، فتتحلقنا، وتقرفص بعد أن تطرح السلام، فعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فتستفهم عني.
قلت: إني عائد من لبنان.
فإذا بهرج وبمرج.
فصاح معلمي: هذا ولدنا يا جماعة. فإذا عاد، عاد الآخرون.
فسأل سائل: هل عدت متسللاً?
فلم أشأ أن أحدثهم عن الدكتور عشيق أختي، ولا عن الدابة، ولا عن الأدون سفسارشك، فقلت: نعم.
- فسيطردونك الليلة.
قلت: إن لوالدي، الذي أعطاكم عمره، صديقًا من كبارهم، اسمه الأدون سفسارشك.
فعاد الصخب. وعاد معلمي يطمئنهم: إن هو إلاّ صبي لم يبلغ الحلم. مع أن الليلة هي ليلة ميلادي الرابع والعشرين. وكنت في حلم حقًا.
وشكرت معلمي على أنه لم يدَّع أنني صبيه كي ينقذني من غضبهم، الذي لم أدرك له سببًا.
حتى أنسوا بي، فأمطروني بالأسئلة عن شظايا أهلهم الذين التجأوا إلى لبنان.
- نحن من الكويكات، التي هدموها وشردوا أهلها، فهل التقيت أحدًا من الكويكات?
فأعجبني ترديد الكاف في الكويكات. فعاجلت ضحكتي قبل أن تنطلق، لولا صوت امرأة جاء من وراء المزولة غربًا:
- البنت ليست نائمة يا شكرية، البنت ميتة يا شكرية.
ثم تناهت إلىنا صرخة مخنوقة، فاختنقت أنفاس الجمع حتى انحبست الصرخة. فعادوا إلى استجوابي. فقلت: لا.
- أنا من المنشية. لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور. فهل تعرف أحدًا من المنشية?
- لا.
- نحن هنا من عمقا، ولقد حرثوها، ودلقوا زيتها. فهل تعرف أحدًا من عمقا?
- لا.
- نحن هنا من البروة. لقد طردونا وهدموها، هل تعرف أحدًا من البروة?
- أعرف امرأة كانت مختبئة مع طفلها بين أعواد السمسم.
فسمعت أصواتًا كثيرة تحدس أيهن تكون هذه المرأة، فعدوا أكثر من عشرين أم فلان حتى صاح كهل من بينهم: كفوا! إنها أم البروة، فحسبها وحسبنا. فكفوا.
ثم عادت الأصوات تنتسب في عناد، مع أن قراها، كما فهمت، قد درستها العسكر:
- نحن من الرويس.
- نحن من الحدثة.
- نحن من الدامون.
- نحن من المزرعة.
- نحن من شعب.
- نحن من ميعار.
- نحن من وعرة السريس.
- نحن من الزيب.
- نحن من البصة.
- نحن من الكابري.
- نحن من أقرت.
ولا تنتظر مني يا محترم، بعد هذا الوقت الطويل أن أتذكر جميع القرى الدارسة، التي انتسبت إلىها الأشباح في باحة جامع الجزار. هذا مع العلم بأننا نحن، أولاد حيفا، كنا نعرف عن قرى سكوتلندة أكثر مما كنا نعرف عن قرى الجليل. فأكثر هذه القرى لم أسمع به إلاّ تلك الليلة.
لا تلمني، يا محترم، بل لم أصحابك. ألم يكتب شاعركم الجليلي :
(سأحفر رقم كل قسيمة
من أرضنا سلبت
وموقع قريتي، وحدودها
وبيوت أهليها التي نسفت
وأشجاري التي اقتلعت
وكل زهيرة برية سحقت
لكي أذكر
سأبقى دائمًا أحفر
جميع فصول مأساتي
وكل مراحل النكبة
من الحبة
إلى القبة
فإلى متى يظل يحفر وتظل سنُو النسيان تعبر وتمحو? ومتى سيقرأ لنا المكتوب على الزيتونة? وهل بقيت زيتونة في ساحة الدار?
فلما لم يتلقوا مني أجوبة شافية، وأدركوا أنني لا أعرف من عباد الله سوى أهلي والأدون سفسارشك، انفضوا من حولي وعادوا إلى زواياهم. فبقيت مع معلمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق